فإن قيل : كيف هذا مع قوله تعالى ﴿لا تعلمهم نحن نعلمهم﴾ ؟
أجيب : بأنه تعالى أعلمه بهم بعد ذلك. وقال مجاهد : الأوّل : القتل والسبي، والثاني : عذاب القبر، وقال ابن زيد : الأوّل : المصائب في الأولاد، والثاني : عذاب الآخرة، وقال ابن عباس : الأوّل : إقامة الحدود عليهم، والثاني : عذاب القبر، وقيل : عذبوا بالجوع مرّتين، وقيل : الأول : ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم، والثاني : عذاب القبر، وقيل : الأوّل : إحراق مسجدهم مسجد الضرار، والثاني : إحراقهم بنار جهنم كما قال تعالى :﴿ثم يردون﴾ أي : في الآخرة ﴿إلى عذاب عظيم﴾ هو النار وقوله تعالى :
﴿وآخرون﴾ أي : وقوم آخرون مبتدأ وقوله تعالى :﴿اعترفوا بذنوبهم﴾ ولم يعتذروا من تخلفهم بالمعاذير الكاذبة نعته، والخبر ﴿خلطوا عملاً صالحاً﴾ أي : وهو جهادهم قبل ذلك أو اعترافهم بذنوبهم أو غير ذلك ﴿وآخر سيئاً﴾ أي : وهو تخلفهم ﴿عسى الله أن يتوب عليهم إنّ الله عفور رحيم﴾ يتجاوز عن التائب ويتفضل عليه نزلت في طائفة من المتخلفين عن غزوة تبوك، واختلف في عددهم فعن ابن عباس أنهم كانوا ثلاثة عشر وروي عنه أنهم كانوا خمسة وقال سعيد بن جبير : كانوا ثمانية، وقيل : كانوا ثلاثة ندموا لما بلغهم ما نزل بالمتخلفين وتابوا وقالوا : نكون في الظلال ومع النساء ورسول الله ﷺ وأصحابه في الجهاد واللأواء فلما رجع رسول الله ﷺ من سفره وقرب من المدينة قالوا : والله لنوثقنّ أنفسنا بالسواري فلا نطلقها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم
٧٣٦
هو الذي يطلقها ويعذرنا فربطوا أنفسهم في سواري المسجد فلما رجع رسول الله ﷺ دخل المسجد على عادته في رجوعه من سفره فصلى ركعتين فرآهم فسأل عنهم فذكر له أنهم أقسموا الا يحلوا أنفسهم حتى تحلهم وترضى عنهم فقال :"وأنا أقسم أن لا أحلهم حتى أومر بإطلاقهم رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين فأنزل الله تعالى هذه الآية" فأرسل رسول الله ﷺ إليهم وأطلقهم وعذرهم فلما أطلقوا قالوا : يا رسول الله هذه أموالنا وإنما تخلفنا عنك بسببها خذها فتصدّق بها عنا وطهرنا واستغفر لنا فقال عليه الصلاة والسلام :"ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً" فأنزل الله تعالى :﴿خذ من أموالهم صدقة تطهرهم﴾ من الذنوب أو حب المال المؤدّي إلى مثله وتجري لهم مجرى الكفارة هذا قول الحسن كان يقول : ليس المراد من هذه الآية الصدقة الواجبة وإنما هي كفارة الذنب الذي صدر ويدل عليه أنه ﷺ أخذ ثلث أموالهم وتصدّق بها وأبقى لهم الثلثين ولم يأخذ الجميع لأنّ الله تعالى قال :﴿خذ من أموالهم﴾ والصدقة الواجبة لا يؤخذ فيها ثلث المال ﴿وتزكيهم بها﴾ أي : وتنمي بها حسناتهم وترفعهم إلى منازل المخلصين ﴿وصل عليهم﴾ أي : واعطف عليهم بالدعاء والاستغفار لهم والسنة أن يدعو آخذ الصدقة لصاحب الصدقة إذا أخذها.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧٣٤
وعن الشافعي رضي الله عنه أنه كان يقول أحب أن يقول الوالي عند أخذ الصدقة : أجرك الله فيما أعطيت وجعله لك طهوراً وبارك لك فيما أبقيت. ﴿إن صلاتك سكن لهم﴾ أي : تسكن إليها نفوسهم وتطمئن بها قلوبهم لأنّ روحه ﷺ كانت روحاً قوية مشرقة صافية باهرة فإذا دعا ﷺ لهم وذكرهم بالخير فاضت آثار من قوّة روحه الروحانية على أرواحهم فأشرقت بهذا السبب أرواحهم وصفت أسرارهم وانتقلوا من الظلمة إلى النور ومن الجسمانية إلى الروحانية فحصل لهم بذلك غاية الطمأنينة. وقرأ حفص وحمزة والكسائيّ : صلاتك بغير واو بعد اللام ونصب التاء على التوحيد، والباقون بالواو وكسر التاء على الجمع لتعدّد المدعوّ لهم.
قيل : إنّ هذه الآية كلام مبتدأ والمقصود منها إيجاب أخذ الزكوات من الأغنياء وعليه أكثر الفقهاء إذ استدلوا بهذه الآية في إيجاب الزكاة وقالوا في الزكاة : إنها طهرة ﴿وا سميع﴾ لأقوالهم واعترافهم ودعائك لهم ﴿عليم﴾ بندامتهم ونياتهم.
ولما حكى سبحانه عن القوم الذين تقدّم ذكرهم أنهم تابوا عن ذنوبهم وأنهم تصدّقوا وهناك لم يذكر إلا قوله :﴿عسى الله أن يتوب عليهم﴾ وما كان ذلك صريحاً في قبول التوبة ذكر بعد ذلك أنه يقبل التوبة وأنه سبحانه يأخذ الصدقات ترغيباً لمن لم يتب في التوبة وترغيباً لكل العصاة في الطاعة بقوله تعالى :


الصفحة التالية
Icon