تنبيه : هذه الآية مشتملة على أنواع من التأكيد : أوّلها : قوله تعالى :﴿إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم﴾ بكون المشتري هو الله تعالى المقدّس عن الكذب والخيانة وذلك من أدل الدلائل على تأكيد هذا العهد، ثانيها : أنه تعالى عبر عن إيصاله هذا الثواب بالبيع والشراء وذلك حق مؤكد، ثالثها : قوله تعالى :﴿وعداً﴾ ووعد الله تعالى حق، رابعها : قوله تعالى :﴿عليه﴾ وكلمة على للوجوب، خامسها : قوله تعالى :﴿حقاً﴾ وهو لتأكد التحقيق، سادسها : قوله تعالى :﴿في التوراة والإنجيل والقرآن﴾ وذلك يجري مجرى إشهاد جميع الكتب الإلهية وجميع الأنبياء والرسل على هذه المبايعة، سابعها : قوله تعالى :﴿ومن أوفى بعهده من الله﴾ وهو غاية في التأكيد، ثامنها : قوله تعالى :﴿فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به﴾ وأيضاً هو مبالغة في التأكيد، تاسعها : قوله
٧٤٢
تعالى :﴿وذلك هو الفوز﴾، وعاشرها قوله تعالى :﴿العظيم﴾ فثبت اشتمال هذه الآية على هذه الوجوه العشرة في التأكيد والتقرير والتحقيق.
ولما ذكر تعالى في هذه الآية أنه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بين أنّ أولئك المؤمنين هم الموصوفون بهذه الصفات التسعة الآتية : أولها : قوله تعالى :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧٣٨
﴿التائبون﴾ وهو مرفوع على المدح أي : هم التائبون يعني المذكورين في قوله تعالى :﴿إنّ الله اشترى من المؤمنين﴾ وقال الزجاج : لا يبعد أن يكون قوله :﴿التائبون﴾ مبتدأ وخبره محذوف تقديره التائبون من أهل الجنة وإن لم يجاهدوا لقوله تعالى :﴿وكلا وعد الله الحسنى﴾ أو خبره ما بعده أي : التائبون عن الكفر على الحقيقة هم الجامعون لهذه الخصال والتائبون صيغة عموم محلاة بالألف واللام فتتناول التوبة من كل معصية والتوبة إنما تحصل عند أربعة أمور :
أوّلها : احتراق القلب عند صدور المعصية.
ثانيها : الندم على ما مضى.
ثالثها : العزم على الترك في المستقبل.
رابعها : أن يكون الحامل له على هذه الأمور الثلاثة طلب رضوان الله تعالى وعبوديته فإن كان غرضه منها رفع مذمّة الناس وتحصيل مدحهم أو لغرض من الأغراض الدنيوية فليس بتائب ولا بد من ردّ المظالم إلى أهلها إن كانت.
الصفة الثانية قوله تعالى :﴿العابدون﴾ أي : الذين أخلصوا العبادة لله وقال الحسن : هم الذين عبدوا الله في السرّاء والضرّاء، وقال قتادة : قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم.
٧٤٣
الصفة الثالثة قوله تعالى :﴿الحامدون﴾ وهم الذين يقومون بحق شكر الله تعالى على نعمه ديناً ودنيا ويجعلون إظهار ذلك عادة لهم، وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبيّ ﷺ "أوّل من يدعى إلى الجنة يوم القيامة الذين يحمدون الله في السرّاء والضرّاء".
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧٤٣
الصفة الرابعة قوله تعالى :﴿السائحون﴾ واختلف في المراد منهم فقال ابن مسعود وابن عباس : هم الصائمون قال ابن عباس رضي الله عنهما : كل ما ذكر في القرآن من السياحة فهو الصوم وقال ﷺ "سياح أمّتي الصوم" وعن الحسن أنّ هذا صوم الفرض، وقيل : هم الذين يديمون الصيام، قال الأزهري : قيل للصائم سائح لأنّ الذي يسيح في الأرض متعبداً لا زاد معه كان ممسكاً عن الأكل والصائم ممسك عن الأكل فلهذا المشابهة يسمى الصائم سائحاً، وقال عطاء : السائحون الغزاة في سبيل الله تعالى.
وروي عن عثمان بن مظعون أنه قال : يا رسول الله ائذن لنا في السياحة فقال :"إنّ سياحة أمّتي الجهاد في سبيل الله" وقال عطاء : السائحون هم طلاب العلم والسياحة أمر عظيم في تكميل النفس لأنه يلقى أفاضل مختلفين فيستفيد من كل واحد فائدة مخصوصة وقد يلقى الأكابر من الناس فيستحقر نفسه في مقابلتهم وقد يصل إلى المدارسة الكثيرة فينتفع بها وقد يشاهد اختلاف أحوال أهل الدنيا بسبب ما خلق الله تعالى في كل طرف من الأحوال الخاصة بهم فتقوى معرفته وبالجملة فالسياحة لها أثر قوي في الدين.
الصفة الخامسة والسادسة : قوله تعالى :﴿الراكعون الساجدون﴾ أي : المصلون وإنما عبر عن الصلاة بالركوع والسجود لأنّ بهما يتميز المصلي عن غيره بخلاف حالة القيام والقعود لأنهما حالة المصلي وغيره ولأنّ القيام أوّل مراتب التواضع لله تعالى والركوع وسطها والسجود غايتها فخص الركوع والسجود بالذكر لدلالتهما على غاية التواضع والعبودية تنبيهاً على أن المقصود من الصلاة نهاية الخضوع والتعظيم.
الصفة السابعة والثامنة : وقوله تعالى :﴿الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر﴾ أي : الآمرون بالإيمان والطاعة والناهون عن الشرك والمعصية ودخول الواو في والناهون عن المنكر للدلالة على أنه بما عطف عليه في حكم خصلة واحدة فكأنه قال : الجامعون بين الوصفين ولأنّ العرب تعطف بالواو على السبعة ومنه قوله تعالى :﴿وثامنهم كلبهم﴾ (الكهف، ٢٢)
وقوله تعالى في صفة الجنة :﴿وفتحت أبوابها﴾
(الزمر، ٢٢)


الصفحة التالية
Icon