﴿وما كان الله ليضل قوماً﴾ أي : يفعل بهم ما يفعل بالضالين من العقوبة لأجل ارتكابهم المنهي عنه ﴿بعد إذ هداهم﴾ للإسلام ﴿حتى يبيّن لهم﴾ بياناً شافياً لداء العمى ﴿ما يتقون﴾ أي : ما يجب اتقاؤه للنهي، أمّا قبل العلم والبيان فلا سبيل عليهم كما لا يؤاخذون بشرب الخمر ولا ببيع الصاع بالصاعين قبل التحريم وهذا بيان لعذر من خاف المؤاخذة بالاستغفار للمشركين قبل ورود النهي عنه، وقيل : إنه في قوم مضوا على الأمر الأول في القبلة والخمر وغير ذلك، وفي الجملة دليل على أنّ الغافل غير مكلف ﴿إنّ الله بكل شيء عليم﴾ أي : بالغ العلم فهو يبيّن لكم ما تأتون وما تذرون مما يتوقف عليه الهدى وما تركه تعالى فإنما يتركه رحمة لكم لا يضل ربي ولا ينسى.
﴿إن الله له ملك السموات والأرض﴾ فلا يخفى عليه شيء فهو خبير بكل ما ينفعكم أو يضرّكم ﴿يحيي ويميت﴾ أي : يحيي من شاء على الإيمان ويميته عليه ويحيي من شاء على الكفر ويميته عليه لا اعتراض لأحد عليه في حكمه وعبيده ﴿وما لكم﴾ أيها الناس ﴿من دون الله﴾ أي : غيره ﴿من ولي﴾ يحفظكم منه ﴿ولا نصير﴾ يمنع عنكم ضرره.
﴿لقد تاب الله﴾ أي : أدام توبته ﴿على النبيّ والمهاجرين والأنصار﴾ وافتتح الله تعالى الكلام بذكر توبة النبيّ ﷺ لأنه كان سبب توبتهم فذكره معهم كقوله تعالى :﴿فأنّ خمسه وللرسول﴾ (الأنفال، ٤١)
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧٤٣
ونحوه، وقيل : هو بعث على التوبة والمعنى ما من أحد إلا وهو محتاج إلى التوبة حتى النبيّ ﷺ والمهاجرون والأنصار لقوله تعالى :﴿وتوبوا إلى الله جميعاً﴾ (النور، ٣١)
إذ ما من أحد إلا وله مقام ينتقص دونه ما هو فيه والترقي إليه توبة من تلك النقيصة وإظهار لفضلها بأنها مقام الأنبياء والصالحين من عباده.
فائدة : اتفق القرّاء على إدغام دال قد في التاء. ﴿الذين اتبعوه في ساعة العسرة﴾ أي : في وقت العسرة لم يرد ساعة بعينها وكانت غزوة تبوك تسمى غزوة العسرة والجيش يسمى جيش العسرة والعسرة الشدّة فكانت عليهم عسرة في الظهر والزاد والماء.
قال الحسن : كان العشرة منهم يخرجون على بعير واحد يتعقبونه يركب الرجل ساعة ثم ينزل
٧٤٦
فيركب صاحبه كذلك وكان زادهم التمر المسوّس والشعير المتغير وكان النفر يخرجون ما معهم إلا التمرات اليسيرة بينهم فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ثم يعطيها صاحبه فيمصها ثم يشرب عليها جرعة من ماء كذلك حتى تأتي على آخرهم ولا يبقى من التمرة إلا النواة فمضوا مع النبيّ ﷺ على صدقهم ويقينهم رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين ورضي عنا بهم آمين.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : خرجنا مع رسول الله ﷺ إلى تبوك في قيظ شديد فنزلنا منزلاً أصابنا فيه عطش شديد حتى ظننا أنّ رقابنا ستقطع حتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه ويشربه ويجعل ما بقي على كبده وحتى أن الرجل كان يذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أنّ رقبته ستقطع فقال أبو بكر : يا رسول الله إنّ الله تعالى قد عوّدك في الدعاء خيراً فادع الله تعالى قال :"أتحب ذلك ؟
" قال : نعم، فرفع رسول الله ﷺ يديه فلم يرجعا حتى أظلت السماء ثم سكبت فملأنا ما معنا ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر. ﴿من بعدما كاد تزيغ﴾ أي : قرب أن تميل ﴿قلوب فريق منهم﴾ أي : همّ بعضهم عند تلك العسرة العظيمة أن يفارق النبيّ ﷺ لكنه صبر واحتسب ولم يرد الميل عن الدين فلذلك قال الله تعالى :﴿ثم تاب عليهم﴾ لما صبروا وثبتوا وندموا على ذلك الأمر العسير.
فإن قيل : قد ذكر الله تعالى التوبة أولاً ثم ذكرها ثانياً فما فائدة التكرار ؟
أجيب : بأنّ الله تعالى ذكر التوبة أوّلاً قبل ذكر الذنب تفضلاً منه وتطبيباً لقلوبهم ثم ذكر الذنب بعد ذلك وأردفه بذكر التوبة مرّة أخرى تعظيماً لشأنهم وليعلموا أنه تعالى قد قبل توبتهم وعفا عنهم. وقرأ حفص وحمزة : يزيغ، بالياء على التذكير لأنّ تأنيث القلوب غير حقيقي، والباقون بالتاء على التأنيث، وأدغم أبو عمرو الدال من كاد في التاء بخلاف عنه ﴿إنه بهم رؤوف رحيم﴾ هاتان صفتان لله تعالى ومعناهما متقارب فالرأفة عبارة عن السعي في إزالة الضرّ والرحمة عبارة عن السعي في إيصال المنفعة، وقيل : إحداهما للرحمة السابقة والآخرى للمستقبلة وقوله تعالى :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧٤٣
﴿وعلى الثلاثة الذين خلفوا﴾ أي : عن غزوة تبوك وهم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع معطوف على الآية الأولى والتقدير لقد تاب الله على النبيّ والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة وعلى الثلاثة الذين خلفوا، وفائدة هذا العطف بيان قبول توبتهم، وهذه الثلاثة كلهم من الأنصار وهم المذكورون في قوله تعالى :﴿وآخرون مرجون لأمر الله﴾ (التوبة، ١٠٦)


الصفحة التالية
Icon