جزء : ١ رقم الصفحة : ٩٢
وقال السديّ : كانت الشياطين تسترق السمع فيسمعون كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت وغيره فيأتون الكهنة ويخلطون بما يسمعون في كلّ كلمة سبعين كذبة ويخبرونهم بها فاكتتب الناس ذلك وفشا في بني إسرائيل أنّ الجنّ تعلم الغيب، فبعث سليمان في الناس وجمع تلك الكتب فجعلها في صندوق ودفنها تحت كرسيه وقال : لا أسمع أنّ أحداً يقول : إنّ الشياطين تعلم الغيب إلا ضربت عنقه فلما مات سليمان وذهب العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان ودفنه الكتب وخلف من بعدهم خلف تمثل شيطان على صورة إنسان فأتى نفراً من بني إسرائيل فقال : هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبداً ؟
قالوا : نعم قال : فاحفروا تحت الكرسي وذهب معهم فأراهم المكان وأقام ناحية فقالوا : أُدن فقال : لا ولكني ههنا فإن لم تجدوه فاقتلوني وذلك أنه لم يكن أحد من الشياطين يدنو من الكرسي إلا احترق فحفروا وأخرجوا تلك الكتب قال الشيطان : إنّ سليمان كان يضبط الجنّ والانس والشياطين والطير بهذا ثم طار الشيطان وفشا في الناس أن سليمان كان ساحراً وأخذ بنو إسرائيل تلك الكتب فلذلك أكثر ما يوجد السحر في اليهود، فلما جاء محمد ﷺ برأ الله سليمان من ذلك وأنزل تكذيباً لمن زعم ذلك واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ﴿وما كفر سليمان﴾ إذ لم يعمل السحر وعبر عنه بالكفر ليدلّ على أنه كفر إذا استحله أو احتيج فيه إلى تقدّم اعتقاد مكفر هذا مذهب الشافعيّ وعند أحمد يكفر مطلقاً ﴿ولكنّ الشياطين﴾ هم الذين ﴿كفروا﴾ باستعمال السحر وتدوينه، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بكسر النون من ولكن مخففة ورفع نون الشياطين والباقون بنصب النون من ولكن مشدّدة ونصب نون الشياطين ﴿يعلمون الناس السحر﴾ يقصدون به إغواءهم وإضلالهم والجملة حال من ضمير كفروا.
تنبيه : السحر لغة صرف الشيء عن وجهه يقال : ما سحرك عن كذا أي : ما صرفك عنه واصطلاحاً مزاولة النفوس الخبيئة لأقوال وأفعال يترتب عليها أمور خارقة للعادة.
واختلف فيه هل هو تخييل أو حقيقة ؟
قال بالأوّل المعتزلة واستدلوا بقوله تعالى :﴿يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى﴾ (طه، ٦٦) وقال بالثاني أهل السنة ويدلّ لذلك الكتاب والسنة الصحيحة، والساحر قد يأتي بفعل أو قول يتغير به حال المسحور فيمرض أو يموت منه ويفرّق به بين المرء وزوجه ويحرم تعليمه أو تعلمه، قال إمام الحرمين : ولا يظهر السحر إلا على يد فاسق ولا تظهر الكرامة على يد فاسق ويحرم أيضاً تعليم أو تعلم الكهانة والتنجيم والضرب بالرمل والحصى والشعير والشعبذة ويحرم إعطاء العوض أو أخذه عنها بالنص الصريح في حلوان الكاهن والباقي بمعناه، والكاهن من يخبر بواسطة النجم عن المغيبات في المستقبل بخلاف العرّاف فإنه الذي يخبر عن المغيبات الواقعة كعين السارق ومكان المسروق والضالة قال في "الروضة" : ولا يغتر بجهالة من يتعاطى الرمل وإن نسب إلى علم.
٩٣
وأمّا الحديث الصحيح "كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك" فمعناه من علمتم موافقته له فلا بأس ونحن لا نعلم الموافقة فلا يجوز لنا ذلك. وقول البيضاويّ : وأما ما يتعجب منه كما يفعله أصحاب الحيل بمعونة الآلات كالأدوية أو يريه صاحب خفة اليد فغير مذموم وتسميته سحراً على التجوّز لما فيه من الدقة ؛ لأنه أي : السحر في الأصل أي : اللغة لما خفي سببه مردود بل هو مذموم أي : حرام كما صرّح به النوويّ في "الروضة" وغيرها، وقوله تعالى :﴿وما أنزل على الملكين﴾ عطف على السحر أي : ويعلمونهم ما أنزل على الملكين وقيل : عطف على ما تتلو أي : واتبعوا ما أنزل أي : ما ألهماه وتعلماه من السحر فالانزال بمعنى الإلهام والتعليم.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٩٢
قال البيضاويّ : وهما ملكان أنزلا لتعليم السحر ابتلاء من الله للناس وتمييزاً بينه وبين المعجزة. قال : وما روي أي : في كتب السير أنهما مثلا بشرين وركب فيهما الشهوة فتعرّضا لامرأة يقال لها زهرة فحملتهما على المعاصي والشرك ثم صعدت إلى السماء بما تعلمت منهما فمحكيّ عن اليهود ولعله من رموز الأوائل وحله أي : الرمز أو ما روي لا يخفى على ذوي البصائر اه.
قال شيخنا شيخ الإسلام زكريا : بأن يقال عُبر عن العقل والنفس المطمئنة بالملكين وعن النفس الأمّارة بالسوء بالزهرة وعن مفارقتها بالموت بالصعود إلى السماء وقيل : هما رجلان سميا ملكين باعتبار صلاحهما وقيل : ما أنزل نفي معطوف على ما كفر تكذيباً لليهود في هذه القصة، وقد طوّل البغوي في هذه القصة. واعتمد ما ردّه البيضاويّ، وقال شيخنا المذكور عن شيخه ابن حجر إنّ لها طرقاً تفيد العلم بصحتها فقد رواها مرفوعة الإمام أحمد وابن حبان والبيهقيّ وغيرهم وموقوفة على عليّ وابن مسعود وابن عباس وغيرهم بأسانيد صحيحة والبيضاويّ لما استبعد ما روي ولم يطلع عليه، قال ولعله إلخ..