واحتج بها من منع النسخ بلا بدل أو ببدل أثقل، ومن منع نسخ الكتاب بالسنة فإنّ الناسخ هو المأتي به بدلاً والسنة ليست كذلك، قال البيضاويّ : والكل ضعيف إذ قد يكون عدم الحكم والأثقل أصلح والنسخ قد يعرف بغيره والسنة ما أتى به الله واستدل بهذه الآية المعتزلة على حدوث القرآن فإنّ التغير والتفاوت من لوازم الحدوث وأجاب أهل السنة بأنهما من عوارض الأمور المتعلق بها المعنى القائم بالذات القديم لا من عوارض هذا المعنى.
وقوله تعالى :﴿ألم تعلم﴾ هنا وفيما مرّ خطاب لمنكري النسخ فالهمزة للإنكار وقيل : خطاب للنبيّ ﷺ والمراد أمّته فالهمزة للتقرير ﴿أنّ الله له ملك السموات والأرض﴾ يفعل فيهما ما يشاء ويحكم ما يريد فهو يملك أموركم ويدبرها ويجريها على حسب ما يصلحكم وهو أعلم بما يتعبدكم به من ناسخ ومنسوخ وهذا كالدليل على قوله :﴿إنّ الله على كلّ شيء قدير﴾ أو على جواز النسخ، ولذلك ترك العاطف ﴿وما لكم من دون الله﴾ أي : غيره ﴿من وليّ﴾ أي : وليّ يحفظكم ومن صلة ﴿ولا نصير﴾ يمنع عنكم عذابه. وفرق بين الوليّ والنصير بأنّ الوليّ قد يضعف عن النصرة والنصير قد يكون أجنبياً عن المنصور فبينهما عموم وخصوص من وجه.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٩٦
ونزل لما سأل أهل مكة النبيّ ﷺ أن يوسعها لهم وأن يجعل الصفا ذهباً.
﴿أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى﴾ أي : سأله قومه ﴿من قبل﴾ أي : من قولهم له ﴿أرنا الله جهرة﴾ (النساء، ١٥٣) وقيل قالوا له لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلاً أو ائتنا بكتاب نقرؤه تنزله من السماء علينا وفجر لنا أنهاراً حتى نتبعك، وقال عبد الله بن أمية : لن نؤمن لك حتى تأتي بكتاب فيه من الله ربّ العالمين إلى ابن أمية، أعلم أني أرسلت محمداً إلى الناس. وأم إمّا معادلة للهمزة في ألم تعلم أي ألم تعلموا أنه مالك الأمور قادر على الأشياء كلها يأمر وينهى كما أراد وتقترحون بالسؤال كما اقترحت اليهود على موسى عليه الصلاة والسلام، وإمّا منقطعة والمراد أن يوصيهم بالثقة وترك الاقتراح عليه ﴿ومن يتبدّل الكفر
٩٧
بالإيمان﴾
أي : يأخذه بدله بترك النظر في الآيات البينات واقتراح غيرها ﴿فقد ضلّ سواء السبيل﴾ أي : أخطأ الطريق الحق والسواء في الأصل الوسط. وقرأ قالون وابن كثير وعاصم بإظهار قد عند الضاد حيث جاء، وأدغمها الباقون ونزل في نفر من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد : لو كنتم على الحق ما هزمتم فارجعا إلى ديننا فنحن أهدى سبيلاً منكم فقال لهم عمار : كيف نقض العهد فيكم ؟
قالوا : شديد قال : فإني قد عاهدت الله أن لا أكفر بمحمد ﷺ ما عشت، فقالت اليهود : أمّا هذا فقد صبا، وقال حذيفة : وأمّا أنا فقد رضيت بالله رباً وبمحمد ﷺ نبياً وبالاسلام ديناً وبالقرآن إماماً وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخواناً ثم أتيا رسول الله ﷺ فأخبراه بذلك فقال : أصبتما الخير وأفلحتما".
﴿ودّ﴾ أي : تمنى ﴿كثير من أهل الكتاب﴾ من اليهود ﴿لو يردونكم﴾ أي : يردّوكم يا معشر المؤمنين فلو مصدرية بمعنى إن، فإنّ لو تنوب عن أن في المعنى دون اللفظ ﴿من بعد إيمانكم كفاراً﴾ مرتدّين وقوله :﴿حسداً﴾ مفعول له كائناً ﴿من عند﴾ أي : من تلقاء ﴿أنفسهم﴾ أي : لم يأمرهم الله بذلك وإنما حملتهم عليه أنفسهم الخبيثة ﴿من بعدما تبين لهم﴾ في التوراة ﴿الحق﴾ في شأن النبيّ محمد ﷺ ﴿فاعفوا﴾ عنهم أي : اتركوهم ﴿واصفحوا﴾ أي : أعرضوا عنهم فلا تجازوهم وكان هذا قبل آية القتال، ولهذا قال تعالى :﴿حتى يأتي الله بأمره﴾ فيهم من القتال وقد أذن في قتالهم وضرب الجزية عليهم.
وروي عن ابن عباس وابن مسعود أنّ هذا منسوخ بقوله تعالى :﴿قاتلوا الذين لا يؤمنون با ولا باليوم الآخر﴾ الآية (التوبة، ٢٩)، وأبى النسخ جماعة من المفسرين والفقهاء واحتجوا بأنّ الله تعالى لم يأمر بالعفو والصفح مطلقاً وإنما أمر به إلى غاية وما بعد الغاية يخالف ما قبلها وما هذا سبيله لا يكون من باب النسخ بل يكون الأوّل قد انقضت مدّته والآخر يحتاج إلى حكم آخر ﴿إنّ الله على كل شيء قدير﴾ فهو يقدر على الانتقام من الكفار :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٩٦
وقوله تعالى :﴿وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة﴾ عطف على قوله : فاعفوا كأنه تعالى أمرهم بالصبر والمخالفة واللجوء إليه بالعبادة والبرّ ﴿وما تقدّموا لأنفسكم من خير﴾ أي : طاعة كصلاة وصدقة ﴿تجدوه﴾ أي : ثوابه ﴿عند الله﴾ فيجازيكم به ﴿إنّ الله بما تعملون بصير﴾ لا يضيع عنده عمل عامل.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٩٦


الصفحة التالية
Icon