بتخفيف الهمزة الأولى وتسهيل الثانية بين الهمزة والباقون بتحقيقهما وقوله تعالى :﴿إذ﴾ بدل من إذ قبله ﴿قال لبنيه ما تعبدون من بعدي﴾ أي : بعد موتي أي : أيّ شيء تعبدونه أراد به تقريرهم على التوحيد والإسلام وأخذ ميثاقهم على الثبات فليس الاستفهام على حقيقته قال عطاء : إنّ الله تعالى لم يقبض نبياً حتى يخيره بين الموت والحياة فلما خير يعقوب قال : أنظرني حتى أسأل ولدي وأوصيهم ففعل الله ذلك به فجمع ولده وولد ولده وقال لهم : قد حضر أجلي فما تعبدون من بعدي ؟
﴿قالوا نعبد إلهك وإله آبائك﴾ وقوله تعالى :﴿إبراهيم وإسمعيل وإسحق﴾ عطف بيان لآبائك وجعل إسمعيل وهو عمه من جملة آبائه تغليباً للأب إسحق والجدّ إبراهيم أو لأن العم أب والخالة أمّ لانخراطهما في سلك واحد وهو الأخوّة لا تفاوت بينهما ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :"عم الرجل صنو أبيه" أي : لا تفاوت بينهما كما لا تفاوت بين صنو النخلة وقال في العباس : هذا بقية آبائي وقال : ردوا عليّ أبي فإني أخشى أن تفعل بي قريش ما فعلت ثقيف بعروة بن مسعود وقوله تعالى :﴿إلهاً واحداً﴾ بدل من إله آبائك كقوله تعالى :﴿بالناصية ناصية كاذبة﴾ (العلق، ١٩) وقوله تعالى :﴿ونحن له مسلمون﴾ حال من فاعل نعبد أو من مفعوله أو منهما وأم منقطعة ومعنى الهمزة فيه للإنكار أي : لم يحضروه وقت موته فكيف ينسبون إليه ما لا يليق به أو متصلة بمحذوف تقديره أكنتم غائبين أم كنتم شهداء. وقيل : الخطاب للمؤمنين بمعنى ما شهدتم ذلك وإنما حصل لكم العلم به من طريق الوحي.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٠٧
وقوله تعالى :﴿تلك﴾ مبتدأ والإشارة إلى الأمة المذكورة التي هي إبراهيم ويعقوب وبنوهما الموحدون، وأنت لتأنيث خبره وهو ﴿أمّة قد خلت﴾ أي : سلفت وقوله تعالى :﴿لها ما كسبت﴾ أي : من العمل جزاؤه استئناف ﴿ولكم﴾ الخطاب لليهود ﴿ما كسبتم﴾ والمعنى أنّ أحداً لا ينفعه كسب غيره متقدّماً كان أو متأخراً فكما أنّ أولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا فكذلك أنتم لا ينفعكم إلا ما كسبتم وذلك أنهم افتخروا بأوائلهم، ونحوه قول رسول الله ﷺ "يا بني هاشم لا يأتيني
١٠٩
الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم" ﴿ولا تسئلون عما كانوا يعملون﴾ كما لا يسئلون عن عملكم والجملة تأكيد لما قبلها.
﴿وقالوا﴾ أي : أهل الكتاب ﴿كونوا هوداً أو نصارى﴾ أي : قالت اليهود : كونوا هوداً وقالت النصارى : كونوا نصارى فأو للتفصيل. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : نزلت في رؤوس يهود المدينة وفي نصارى نجران وذلك أنهم خاصموا المسلمين في الدين كل فرقة تزعم أنها أحق بدين، فقالت اليهود : نبينا موسى أفضل الأنبياء وكتابنا التوراة أفضل الكتب وديننا أفضل الأديان، وكفرت بعيسى والإنجيل وبمحمد والقرآن. وقالت النصارى : نبينا عيسى أفضل الأنبياء وكتابنا الإنجيل أفضل الكتب وديننا أفضل الأديان، وكفرت بمحمد ﷺ والقرآن وقال كل من الفريقين للمؤمنين : كونوا على ديننا فلا دين إلا ذاك، وقوله تعالى :﴿تهتدوا﴾ جواب الأمر وهو كونوا. قال الله تعالى :﴿قل﴾ لهم يا محمد ﴿بل﴾ نتبع ﴿ملة إبراهيم﴾ وقال الكسائي : وهو نصب على الإغراء كأنه يقول : اتبعوا ملة إبراهيم، وقيل معناه بل تكون على ملة إبراهيم فحذف على فصار منصوباً وقوله تعالى :﴿حنيفاً﴾ حال من المضاف إليه كقولك : رأيت وجه هند قائمة لكن هذا جزء حقيقة وملة كالجزء والحنيف المائل عن كل دين باطل إلى دين الحق وقوله تعالى :﴿وما كان من المشركين﴾ تعريض لأهل الكتاب وغيرهم ؛ لأنّ كلاً منهم يدّعي اتباع إبراهيم وهو على الشرك.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٠٩
قولوا آمنا با﴾ خطاب للمؤمنين وقول "الكشاف" : ويجوز أن يكون خطاباً للكافرين أي : قولوا لتكونوا على الحق وإلا فأنتم على الباطل وكذلك قوله تعالى :﴿قل بل ملة إبراهيم﴾ يجوز أن يكون على تأويل اتبعوا ملة إبراهيم أو كونوا أهل ملته يرده قوله تعالى :﴿فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به﴾ (البقرة، ١٣٧) ﴿وما أنزل إلينا﴾ أي : من القرآن وإنما قدّم ذكره ؛ لأنه أوّل الكتب بالنسبة إلينا أو لأنه سبب للإيمان بغيره ﴿وما أنزل إلى إبراهيم﴾ من الصحف العشرة ﴿وإسمعيل وإسحق ويعقوب والأسباط﴾ جمع سبط وهو الحاقد وكان الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما سبطي رسول الله ﷺ والمراد حفدة يعقوب أو أبناؤه وذراريهم فإنهم حفدة إبراهيم وإسحق.
فإن قيل : الصحف إنما أنزلت على إبراهيم أجيب : بأنهم لما كانوا متعبدين بتفاصيلها داخلين تحت أحكامها كانت أيضاً منزلة إليهم كما أنّ القرآن منزل إلينا ﴿وما أوتي موسى﴾ من التوراة ﴿و﴾ ما أوتي ﴿عيسى﴾ من الإنجيل.