نزل ﴿قل﴾ لهم ﴿أتحاجوننا﴾ أي : تجادلوننا أو تخاصموننا ﴿في الله﴾ أي : في شأنه أن اصطفى النبيّ ﷺ من العرب دونكم ويقولون : لو أنزل الله على أحد لأنزل علينا وترون أنكم أحق بالنبوّة منا ﴿وهو ربنا وربكم﴾ نشترك جميعاً في أننا عباده، وهو يصيب برحمته وكرامته من يشأ من عباده هم فوضى في ذلك لا يختص به عجمي دون عربي إذا كان أهلاً للكرامة ﴿ولنا أعمالنا﴾ نجازي بها ﴿ولكم أعمالكم﴾ تجازون بها أي : كما أنّ لكم أعمالاً يعتبرها الله في إعطاء الكرامة ومنعها فنحن كذلك، فالعمل هو أساس الأمر وبه العبرة ﴿ونحن له مخلصون﴾ في الدين والعمل دونكم فنحن أولى بالاصطفاء فلا تستبعدوا أن يؤهل أهل إخلاصه لكرامته بالنبوّة والهمزة للإنكار، والجمل الثلاث أحوال، وقرأ أبو عمرو بإدغام النون في اللام بخلاف عنه وله فيه الروم والإشمام.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١١١
وقوله تعالى :﴿أم يقولون﴾ قرأه ابن عامر وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي بالتاء، والباقون بالياء على الغيبة، فعلى القراءة الثانية أم منقطعة والهمزة للإنكار، وعلى القراءة الأولى يحتمل أن تكون معادلة للهمزة في أتحاجوننا بمعنى أيّ الأمرين تأتون المحاجّة وادعاء اليهودية والنصرانية على الأنبياء في قولكم :﴿إنّ إبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى قل﴾ لهم يا محمد ﴿أأنتم أعلم أم الله﴾ الله أعلم، وقد نفى الله تعالى الأمرين عن إبراهيم بقوله تعالى :﴿ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلمًا﴾ (آل عمران، ٦٧) واحتج تعالى على ذلك بقوله تعالى :﴿وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده﴾ (آل عمران، ٦٥) والمذكورون معه تبع له، فهم أتباعه في الدين وفاقاً.
﴿ومن﴾ أي : لا أحد ﴿أظلم ممن كتم﴾ أي : أخفى عن الناس ﴿شهادة عنده﴾ كائنة ﴿من الله﴾ أي : شهادة الله تعالى لإبراهيم بالحنيفية والبراءة عن اليهودية والنصرانية وهم أهل الكتاب ؛ لأنهم كتموا هذه الشهادة وكتموا شهادة الله تعالى لمحمد بالنبوّة في كتبهم وغيرها، ومن للابتداء كما في قوله تعالى :﴿براءة من الله ورسوله﴾ (التوبة، ١) أي : شهادة كائنة من الله، فمن الله صفة لشهادة وقوله تعالى :﴿وما الله بغافل عما تعملون﴾ تهديد لهم.
وقوله تعالى :﴿تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون﴾ تكرير للمبالغة في التحذير والزجر عما استحكم في الطبائع من الإفتخار بالآباء والإتكال عليهم وقيل : الخطاب فيما سبق لهم، وفي هذه الآية لنا تحذيراً عن الاقتداء بهم وقيل : المراد بالأمة في الأوّل الأنبياء، وفي الثاني أسلاف اليهود والنصارى.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١١١
١١٢
﴿سيقول السفهاء﴾ أي : الجهال الذين خفت أحلامهم ﴿من الناس﴾ وهم اليهود ؛ لكراهتهم التوجه إلى الكعبة وأنهم لا يرون النسخ ﴿ما ولاهم﴾ أي : أيّ شيء صرف النبيّ والمؤمنين ﴿عن قبلتهم التي كانوا عليها﴾ وهي بيت المقدس وقيل : هم المنافقون لحرصهم على الطعن والاستهزاء، وقيل : المشركون قالوا قد تردّد على محمد أمره واشتاق إلى مولده وقد توجه نحو بلدكم وهو راجع إلى دينكم والإتيان بالسين الدالة على الاستقبال من الإخبار بالغيب.
فإن قيل : ما فائدة الإخبار بذلك قبل وقوعه أجيب : بأن فائدة توطين النفس وإعداد الجواب، فإنّ مفاجأة المكروه أشدّ والعلم به قبل وقوعه أبعد عن الاضطراب إذا وقع وقبل الرمي يراش السهم، والقبلة في الأصل الحالة التي عليها الإنسان مأخوذة من الاستقبال، وصارت عرفاً للمكان المتوجه نحوه للصلاة قال الله تعالى ﴿قل﴾ لهم يا محمد ﴿المشرق والمغرب﴾ أي : الجهات كلها ملكاً والخلق عبيده لا يختص به مكان دون مكان بخاصة ذاتية تمنع إقامة غيره مقامه وإنما العبرة بامتثال أمره لا بخصوص المكان فيأمر بالتوجه إلى أيّ جهة شاء لا اعتراض عليه ﴿يهدي من يشاء﴾ هدايته ﴿إلى صراط﴾ أي : طريق ﴿مستقيم﴾ وهو ما تقتضيه الحكمة والمصلحة من توجيههم تارة إلى بيت المقدس وأخرى إلى الكعبة.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١١٢
وقوله تعالى :﴿وكذلك﴾ الكاف فيه للتشبيه أي : كما اخترنا إبراهيم وذريته واصطفيناكم ﴿جعلناكم﴾ يا أمة محمد ﴿أمة وسطاً﴾ أي : خياراً عدولاً قال تعالى :﴿قال أوسطهم﴾ (القلم، ٢٨) أي : خيرهم وأعدلهم، وخير الأشياء أوسطها لا إفراطها ولا تفريطها ؛ لأنّ الإفراط المجاوزة لما لا ينبغي والتفريط التقصير عما ينبغي كالجود بين الإسراف والبخل والشجاعة بين التهور وهو الوقوع في الشيء بقلة مبالاة وبين الجبن ؛ لأنّ الأفراد يتسارع إليها الخلل والأوساط محمية محفوظة.


الصفحة التالية
Icon