ولما تحوّلت القبلة قالت اليهود : وما هو إلا شيء يبتدعه محمد من تلقاء نفسه، فتارة يصلي إلى بيت المقدس، وتارة إلى الكعبة ولو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظره، فأنزل الله تعالى ﴿وإنّ الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه﴾ أي : التولي إلى الكعبة ﴿الحق﴾ أي : الثابت ﴿من ربهم﴾ لما في كتبهم من نعت النبيّ ﷺ من أنه يحوّل إليها وقوله تعالى :﴿وما الله بغافل عما تعملون﴾ قرأه ابن عامر وحمزة والكسائي بالتاء على الخطاب للمؤمنين أي : وما أنا بغافل عن جزائكم وثوابكم، والباقون بالياء على الغيب أي : عما يعمل اليهود أي : فأجازيهم في الدنيا والآخرة، ففي الآية وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين، ولما قالت اليهود والنصارى ائتنا بآية على أنّ الكعبة قبلة.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١١٢
﴿ولئن﴾ اللام موطئة للقسم ﴿أتيت الذين أوتوا الكتاب﴾ أي : اليهود والنصارى ﴿بكل آيةٍ﴾ أي : برهان وحجة على أن التوجه إلى الكعبة هو الحق وقوله تعالى :﴿ما تبعوا قبلتك﴾ جواب للقسم المضمر والمعنى أن تركهم اتباعك ليس على شبهة تزيلها بإيراد الحجة إنما هو على مكابرة وعناد مع علمهم لما في كتبهم من نعتك أنك على الحق.
تنبيه : كان مقتضى الظاهر ما يتبعون لكن أتى بالماضي لتحقق وقوعه كقوله تعالى :﴿أتى أمر الله﴾ وقوله تعالى :﴿وما أنت بتابع قبلتهم﴾ قطع لأطماعهم، فإنهم قالوا : لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظره تغريراً منهم له وطمعاً في رجوعه ﴿وما بعضهم بتابع قبلة بعضٍ﴾ أي : أنهم مع اتفاقهم على مخالفتك مختلفون في شأن القبلة، فإن اليهود تستقبل الصخرة والنصارى مطلع الشمس لا يرجى توافقهم كما لا ترجى موافقتهم لك لتصلب كل حزب فيما هو فيه.
فإن قيل : كيف قال تعالى :﴿وما أنت بتابع قبلتهم﴾ ولهم قبلتان لليهود قبلة وللنصارى قبلة ؟
أجيب : بأن كلتا القبلتين باطلة مخالفة لقبلة الحق فكانتا لحكم الاتحاد في البطلان قبلة واحدة وقوله تعالى :﴿ولئن اتبعت أهواءهم﴾ خطاب مع النبيّ ﷺ والمراد به الأمة أو على سبيل الفرض
١١٦
والتقدير ﴿من بعدما جاءك﴾ بين لك ﴿من العلم﴾ بالوحي في القبلة ﴿إنك إذاً﴾ إن اتبعتهم ﴿لمن الظالمين﴾ أي : من المرتكبين الظلم الفاحش، وفي هذا لطف للسامعين وزيادة تحذير واستفظاع لحال من ترك الدليل بعد إنارته وتتبع الهوى وتهييج للثبات على الحق، وقد أكد سبحانه وتعالى التهديد في ذلك وبالغ فيه.)
جزء : ١ رقم الصفحة : ١١٦
قال البيضاوي من سبعة أوجه : الأوّل : الاتيان باللام الموطئة للقسم، الثاني : القسم المضمر، الثالث : حرف التحقيق أي : التأكيد وهي أن الرابع تركيبه من جملة إسمية، الخامس : الاتيان باللام في الخبر أي : وهو من الظالمين، السادس : جعله من الظالمين أي : تعريف الظالمين الدال على المعروفين ولم يقل إنك ظالم، فإن في الإندراج معهم إيهاماً بحصول أنواع الظلم ؛ لأنّ أل في الظالمين للاستغراق، السابع : التقييد بمجيء العلم تعظيماً للحق المعلوم وتحريضاً على اقتضائه وتحذيراً عن متابعة الهوى واستفظاعاً لظهور الذنب عن الأنبياء.
﴿الذين أتيناهم الكتاب﴾ أي : علماؤهم ﴿يعرفونه﴾ أي : محمداً ﷺ لسبق ذكره بلفظ الرسول مرّتين، وقول البيضاويّ تتبعاً للزمخشري وإن لم يسبق ذكره ممنوع، وقيل : القرآن وقيل : التحويل، ويدل للأوّل قوله تعالى :﴿كما يعرفون أبناءهم﴾ أي : من بين الصبيان، قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لعبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه : كيف هذه المعرفة ؟
قال عبد الله : يا عمر لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني ومعرفتي بمحمد ﷺ أشدّ من معرفتي بابني فقال عمر : وكيف ذلك ؟
قال : لست أشك في محمد أنه نبي وأمّا ولدي فلعل والدته خانت فقال عمر : وفقك الله تعالى يا ابن سلام فقد صدقت.
فإن قيل : لم خص الأبناء من الأولاد ؟
أجيب : بأنّ الذكور أشهر وأعرف وهم لصحبة الآباء ألزم وبقلوبهم ألصق ﴿وإنّ فريقاً منهم﴾ أي : أهل الكتاب ﴿ليكتمون الحق﴾ أي : صفته ﷺ وأمر الكعبة ﴿وهم يعلمون﴾ ولا يظهرونه عناداً.
وقوله تعالى :﴿الحق من ربك﴾ كلام مستأنف، والحق إما مبتدأ خبره من ربك والمعنى أنه الحق أي : ما ثبت أنه من الله تعالى كالذي أنت عليه لا ما لم يثبت كالذي عليه أهل الكتاب، وإما خبر مبتدأ محذوف أي : هذا الحق ومن ربك حال أو خبر، بعد خبر والمعنى أنّ ما جاءك من العلم أو ما يكتمونه هو الحق لا ما يزعمون ﴿فلا تكونن من الممترين﴾ أي : من الشاكين في أنه من ربك أو في كتمانهم الحق عالمين به أي : فلا تكونن من هذا النوع وهو أبلغ من لا تمتر وليس فيه نهي للرسول ﷺ عن الشك فيه ؛ لأنه غير متوقع منه بل إما لتحقيق الأمر، وإنه بحيث لا يشك فيه ناظر، وإمّا أنّ المراد به أمته.