وأمّا تعق الغراب فبالغين المعجمة والمعنى أنهم في سماع الموعظة وعدم تدبرها كالبهائم تسمع صوت راعيها ولا تفهم. وقيل : معنى الآية مثل الذين كفروا في دعاء الأصنام التي لا تفقه ولا تعقل كمثل الناعق بالغنم ولا ينتفع من نعيقه بشيء غير أنه في عناء من الدعاء والنداء، كذلك الكافر ليس له من دعاء الآلهة إلا العناء والدعاء كما قال تعالى :﴿وإن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم﴾ (فاطر، ١٤) ثم وصف سبحانه وتعالى الكفار بصفات ذم فقال :﴿صمّ﴾ أي : هم صم عن سماع الحق، تقول العرب لمن يسمع ولا يعقل ما يقال له إنه أصم ﴿بكم﴾ عن الخير لا يقولونه ﴿عمي﴾ عن الهدى لا يبصرونه ﴿فهم لا يعقلون﴾ الموعظة لإضلال نظرهم ﴿يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات﴾ أي : حلالات ﴿ما رزقناكم﴾.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٢٧
روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله ﷺ قال :"يا أيها الناس إنّ الله طيب لا يقبل إلا طيباً وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال :﴿يأيها الرسل كلوا من الطيبات﴾ (المؤمنون، ٥١) وقال :﴿يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم﴾" ثم ذكر الرجل يطيل السفر يمدّ يديه إلى السماء يا رب يا رب أشعث أغبر مطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنّى يستجاب لذلك ؟
". ولما وسع الله تعالى الأمر على الناس كافة، وأباح لهم ما في الأرض سوى ما حرّم عليهم، أمر المؤمنين منهم أن يتحرّوا طيبات ما رزقوا ويقوموا بحقوقها فقال :﴿واشكروا ﴾ على ما رزقكم وأحل لكم ﴿إن كنتم إياه تعبدون﴾ أي : إن صح أنكم تخصونه بالعبادة وتقرّون أنه مولى النعم، فإن عبادته لا تتم إلا بالشكر فالمعلق بفعل العبادة هو الأمر بالشكر لإتمامه وهو يعدم عند عدمه. روى البيهقيّ وغيره أن رسول الله ﷺ قال : يقول الله تعالى : إني والجنّ والإنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر غيري". ثم بيّن سبحانه وتعالى المحرّمات بقوله :
﴿إنما حرّم عليكم الميتة﴾ أي : أكلها إذ الكلام فيه
١٢٩
وكذا ما بعدها وهي التي ماتت من غير ذكاة شرعية وألحق بها بالسنة ما أبين من حيّ وخص منها السمك والجراد والحرمة المضافة إلى العين تفيد عرفاً حرمة التصرّف فيها مطلقاً إلا ما خصه الدليل كالتصرّف في المدبوغ ﴿والدم﴾ أي : المسفوح كما قال تعالى في سورة الأنعام :﴿أو دماً مسفوحاً﴾. روى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنّ رسول الله ﷺ قال :"أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال" وهو في حكم المرفوع بل رفعه ابن ماجه وغيره لكن بسند ضعيف ﴿ولحم الخنزير﴾ أي : جميع أجزائه وعبر عن ذلك باللحم ؛ لأنه معظم المقصود منه وغيره تبع له ﴿وما أهلّ به لغير الله﴾ أي : ذبح على اسم غيره، والإهلال : رفع الصوت وكانوا يرفعونه عند الذبح لآلهتهم ﴿فمن اضطرّ﴾ أي : ألجأته الضرورة إلى أكل شيء مما ذكر فأكله.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٢٩
غير باغ﴾
أي : خارج على المسلمين وقيل : مجاوز للمقدار الذي أحلّ له ﴿ولا عاد﴾ أي : متعدٍ على المسلمين بقطع الطريق وقيل : لا يقصر فيما أبيح له فيدعه، وقال سهل بن عبد الله : غير باغ مفارق للجماعة، ولا عاد مبتدع مخالف للسنة فلم يرخص للمبتدع في تناول المحرّم عند الضرورة. وقال مسروق : من اضطرّ إلى الميتة والدم ولحم الخنزير، فلم يأكل ولم يشرب حتى مات دخل النار. واختلف العلماء في قدر ما يحل للمضطرّ أكله من الميتة على قولين : أحدهما أن يأكل مقدار ما يمسك رمقه وهو قول ابن أبي حنيفة، والراجح عند الشافعيّ والقول الآخر يجوز أن يأكل حتى يشبع وبه قال مالك :﴿فلا إثم﴾ أي : لا حرج ﴿عليه﴾ في أكل ما ذكر وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة بكسر نون، فمن اضطرّ في الوصل والباقون يضمها.
فائدة : قال البغويّ ﴿غير﴾ نصب على الحال وقيل على الاستثناء وإذا رأيت غير تصلح في موضعها لا فهي حال، وإذا صلح في موضعها إلا فهي استثناء ﴿إنّ الله غفور﴾ لمن أكل في حال الاضطرار ﴿رحيم﴾ حيث رخص للعباد في ذلك.
فإن قيل : إنما تفيد قصر الحكم على ما ذكر وكم من محرّم لم يذكر أجيب : بأنّ المراد قصر الحرمة على ما ذكر مما استحله الكفار لا مطلقاً وقصر ما ذكر على حال الاختيار كأنه قيل : إنما حرّم عليكم هذه الأشياء ما لم تضطرّوا إليها.
تنبيه : ألحق بالباغي والعادي كل عاص بسفره كالآبق والمكاس فلا يحلّ لهم أكل شيء من ذلك ما لم يتوبوا وعليه الشافعيّ.
ونزل في علماء اليهود ورؤسائهم الذين كانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا والمآكل وكانوا يرجون أن يكون النبيّ المنعوت منهم، فلما بعث ﷺ من غيرهم خافوا ذهاب مأكلتهم وزوال رياستهم فعمدوا إلى صفة محمد ﷺ فغيروها ثم أخرجوها إليهم، فإذا نظرت السفلة إلى النعت المغير وجدوه مخالفاً لصفة محمد ﷺ فلا يتبعونه.


الصفحة التالية
Icon