والثاني : أنه مفرغ من الأحوال العامّة والتقدير ما كان ليأخذه في كل حال إلا في حال التباسه بمشيئة الله، أي إذنه في ذلك. ولما كان يوسف عليه السلام إنما تمكن من ذلك بعلو درجته وتمكنه ورفعته بعدما كان فيه عندهم من الصغار كان ذلك محل عجب فقال تعالى التفاتاً إلى مقام التكلم :﴿نرفع درجات من نشاء﴾، أي : بالعلم كما رفعنا درجته، وكان الأصل درجاته ولكنه عمم ؛ لأنه أدل على العظمة، فكان أليق بمظهرها، وفي هذه الآية دليل على أنّ العلم أشرف المقامات وأعلى الدرجات ؛ لأنّ الله تعالى لما هدى يوسف عليه السلام إلى هذه الحيلة مدحه لأجل ذلك ورفع درجته على إخوته، ووصف إبراهيم عليه السلام بقوله تعالى :﴿نرفع درجات من نشاء﴾ عندما حكى عنه دلائل التوحيد والبراءة عن إلهية الشمس والقمر والكواكب.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتنوين التاء، والباقون بغير تنوين ﴿وفوق كل ذي علم عليم﴾ قال ابن عباس : فوق كل عالم عالم إلى أن ينتهي العلم إلى الله تعالى فوق كل عالم ؛ لأنه هو الغني بعلمه عن التعلم، وفي الآية دليل على أنّ إخوة يوسف عليه السلام كانوا علماء، وكان يوسف أعلم
١٤٢
منهم. قال ابن الأنباري : يجب أن يتهم العالم نفسه ويستشعر التواضع لربه تعالى، ولا يطمع نفسه في العلية في العلوم ؛ لأنه لا يخلو عالم من عالم فوقه. ولما حصل لإخوة يوسف من إخراج الصواع من رحل بنيامين ما حصل، فكأنه قيل : فما كان فعلهم عند ذلك ؟
فقيل :﴿قالوا﴾ تسلية لأنفسهم ودفعاً للعار عن خاصتهم ﴿إن يسرق﴾ ولم يجزموا بسرقته لعلمهم بأمانته وظنهم أنّ الصواع دس في رحله وهو لا يشعر كما دست بضاعتهم في رحالهم، وكان قد قال لهم ذلك ﴿فقد سرق أخ له من قبل﴾، أي : يوسف وكان غرضهم من ذلك إنا لسنا على طريقته ولا على سيرته، وهو وأخوه مختصان بهذه الطريقة ؛ لأنهما من أمّ أخرى، واختلفوا في التي نسبوها إلى يوسف عليه السلام على أقوال، فقال سفيان بن عيينة : أخذ دجاجة من الطير التي كانت في بيت يعقوب فأعطاها سائلاً. وقال مجاهد : جاءه سائل فأخذ بيضة من البيت فناولها للسائل، وقال وهب : كان يخبىء الطعام من مائدة يعقوب للفقراء، وقال سعيد بن جبير : كان جدّه أبو أمّه كافراً يعبد الوثن وأمرته أمّه أن يسرق تلك الأوثان ويكسرها، فلعله يترك عبادة الأوثان ففعل ذلك فهذا هو السرقة. وقال محمد بن إسحاق : إنّ يوسف عليه السلام كان عند عمته ابنة إسحاق، وكانت تحبه حباً شديداً، فأرادت أن تمسكه عند نفسها وكان قد بقي معها منطقة لأبيها إسحاق عليه السلام، وكانوا يتبركون بها، فشدّتها على وسط يوسف عليه السلام من تحت ثيابه وهو صغير لا يشعر، ثم قالت : إنه سرقها، وكان علمهم أنّ من سرق يسترق فقال يعقوب عليه السلام : إن كان قد فعل ذلك فهو سلم لك فأمسكته عندها حتى ماتت، فتوصلت بهذه الحيلة إلى إمساكه عند نفسها.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٤١
قال ابن الأنباري : وليس في هذه الأفعال كلها سرقة، ولكنها تشبهها فعيروه بها عند الغضب، وقيل : إنهم كذبوا عليه وبهتوه، وكانت قلوبهم مملوءة من الغضب على يوسف بعد تلك الوقائع وبعد انقضاء المدّة الطويلة. قال الرازي : وهذه الواقعة تدل على أنّ قلب الحاسد لا يطمئن من الغل البتة. ﴿فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها﴾، أي : يظهرها ﴿لهم﴾ والضمير للكلمة التي هي قوله :﴿قال﴾، أي : في نفسه ﴿أنتم شرّ مكاناً﴾، أي : من يوسف وأخيه، أي : لسرقتكم أخاكم من أبيكم وظلمكم له، وقيل : الضمير يرجع إلى الكلمة التي قالوها في حقه، وهي قولهم :﴿فقد سرق أخ له من قبل﴾ وعلى هذا يكون المعنى : فأسر يوسف جواب الكلمة التي قالوها في حقه ﴿والله أعلم﴾ منكم ﴿بما تصفون﴾، أي : تقولون، وأنه ليس كما قلتم، قال أصحاب الأخبار والسير : إنّ يوسف عليه السلام لما استخرج الصاع من رحل بنيامين نقره وأدناه إلى أذنه ثم قال : إنّ صاعي هذا يخبرني أنكم كنتم اثني عشر رجلاً لأب واحد وإنكم انطلقتم بأخ لكم من أبيكم فبعتموه فقال بنيامين : أيها الملك إنّ صاعك يخبرك من جعله في رحلي، ثم نقره وأدناه من أذنه، فقال : إنّ صاعي غضبان وهو يقول : كيف تسألوني عن صاحبي وقد رؤيت مع من كنت ؟
قالوا : فغضب روبيل لذلك، وكانوا أولاد يعقوب إذا غضبوا لم يطاقوا، وكان روبيل إذا غضب لم يقم لغضبه شيء، وكان إذا صاح ألقت كل حامل حملها إذا سمعت صوته، وكان مع هذا إذا مسه أحد من ولد يعقوب عليه السلام يسكن غضبه، وكان أقوى الأخوة وأشدّهم، وروي أنه قال لإخوته : كم عدد الأسواق بمصر ؟
قالوا : عشرة. فقال : اكفوني أنتم الأسواق، وأنا أكفيكم الملك أو اكفوني أنتم الملك وأنا أكفيكم الأسواق، ودخلوا على يوسف فقال روبيل : لتردّن علينا أخانا أو لأصيحنّ
١٤٣


الصفحة التالية
Icon