﴿قال﴾ لهم :﴿سوف أستغفر﴾، أي : أطلب أن يغفر ﴿لكم ربي﴾ الذي أحسن إليّ بأنّ يغفر لبنيّ حتى لا يفرق بيني وبينهم في دار البقاء والربوبية ملك هو أتم الملك على الإطلاق وهو ملك الله تعالى، وظاهر هذا الكلام أنه لم يستغفر لهم في الحال بل وعدهم بأن يستغفر لهم بعد ذلك، واختلفوا في سبب هذا المعنى على وجوه، فقال ابن عباس والأكثرون : أراد أن يستغفر لهم في وقت السحر ؛ لأنّ هذا الوقت أوفق الأوقات لرجاء الإجابة،
١٥٢
وفي رواية أخرى له أنه أخر الاستغفار إلى ليلة الجمعة ؛ لأنها أوفق لأوقات الإجابة.
وقال وهب : كان يستغفر لهم كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة. وقال طاوس : أخر إلى السحر من ليلة الجمعة فوافق ليلة عاشوراء، وقيل : استغفر لهم في الحال، وقوله :﴿سوف أستغفر لكم﴾ معناه أني أدوام على هذا الاستغفار في الزمان المستقبل، وقيل : قام إلى الصلاة في وقت السحر فلما فرغ رفع يديه، وقال : اللهم اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عنه، واغفر لأولادي ما فعلوا في حق يوسف، فأوحى الله تعالى إليه أني قد غفرت لك ولهم أجمعين.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٥٢
وعن الشعبي قال : أسأل يوسف أن عفا عنكم استغفر لكم ربي ﴿إنه هو الغفور الرحيم﴾ كل ذلك تسكيناً لقلوبهم وتصحيحاً لرجائهم، وروي أنّ يوسف عليه السلام كان بعث مع البشير إلى يعقوب عليه السلام مئتي راحلة وجهازاً كثيراً ليأتوا بيعقوب وأهله وولده، فتهيأ يعقوب عليه السلام للخروج إلى مصر، فخرج بهم فلما دنا من مصر كلم يوسف الملك الذي فوقه، فخرج يوسف عليه السلام والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وركب أهل مصر معهما بأجمعهم يتلقون يعقوب، وكان يعقوب يمشي وهو يتوكأ على يهوذا، فنظر إلى الخيل والناس فقال : يا يهوذا هذا فرعون مصر ؟
قال : لا هذا ابنك يوسف، فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه ذهب يوسف يبدؤه بالسلام، فقال له جبريل : لا حتى يبدأ يعقوب بالسلام فقال يعقوب : السلام عليك يا مذهب الأحزان.
وقال الثوري : لما التقى يعقوب ويوسف عليهما السلام عانق كل واحد منهما صاحبه وبكى فقال يوسف : يا أبت بكيت عليّ حتى ابيضت عيناك ألم تعلم أنّ القيامة تجمعنا ؟
قال : بلى يا بنيّ ولكن خشيت أن يسلب دينك، فيحال بيني وبينك فذلك قوله تعالى :
﴿فلما دخلوا على يوسف آوى﴾، أي : ضمّ ﴿إليه أبويه﴾ قال الحسن : أباه وأمّه وكانت حية إكراماً لهما بما يتميزان، به وغلب الأب في التثنية لذكورته، وعن ابن عباس أنها خالته ليا وكانت أمه قد ماتت في نفاس بنيامين. قال البغويّ : وفي بعض التفاسير أنّ الله تعالى أحيا أمّه حتى جاءت مع يعقوب إلى مصر.
فإن قيل : ما معنى دخولهم عليه قبل مصر ؟
أجيب : بأنه حين استقبلهم نزل بهم في خيمة أو بيت هناك فدخلوا عليه وضمّ إليه أبويه ﴿وقال﴾ مكرماً ﴿ادخلوا مصر﴾، أي : البلد المعروف وأتى بالشرط للأمن لا للدخول فقال :﴿إن شاء الله آمنين﴾ من جميع ما ينوب حتى مما فرطتم في حقي وفي حق أخي، روي أنّ يعقوب عليه السلام وولده دخلوا مصر وهم اثنان وسبعون ما بين رجل وامرأة وخرجوا منها مع موسى عليه السلام والمقاتلون منهم ألف وبضعة وسبعون رجلاً سوى الصبيان والشيوخ.
﴿و﴾ لما استقرّت بهم الدار بدخول مصر ﴿رفع أبويه﴾، أي : أجلسهما معه ﴿على العرش﴾، أي : السرير الرفيع والرفع هو النقل إلى العلوّ ﴿وخرّوا له﴾، أي : انحنوا له أبواه وإخوته ﴿سجداً﴾، أي : سجود انحناء، والتواضع قد يسمى سجوداً كقول الشاعر :
*ترى ألا كم فيها سجداً للحوافر
لا وضع جبهة وكان تحيتهم في ذلك الزمان، أو أنهم وضعوا الجباه وكان ذلك على طريقة
١٥٣
التحية والتعظيم لا على طريقة العبادة، وكان ذلك جائزاً في الأمم السالفة، فنسخت في هذه الشريعة، وروي عن ابن عباس أنه قال : معناه خرّوا لله سجداً بين يدي يوسف عليه السلام، فيكون سجود شكر لله لأجل وجدان يوسف، ويدل عليه قوله تعالى ﴿ورفع أبويه على العرش وخرّوا له سجداً﴾ وذلك يشعر بأنهم صعدوا على السرير، ثم سجدوا لله تعالى، ولو أنهم سجدوا ليوسف لسجدوا له قبل الصعود على السرير ؛ لأنّ ذلك أدخل في التواضع.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٥٢
فإن قيل : هذا التأويل لا يطابق قول يوسف عليه السلام ﴿وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل﴾ والمراد منه قوله ﴿إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين﴾ (يوسف، ٤) أي : رأيتهم ساجدين لأجلي، أي : أنهم سجدوا لله لطلب مصلحتي والسعي في إعلاء منصبي، وإذا كان هذا محتملاً سقط السؤال قال الرازيّ : وعندي أنّ هذا التأويل متعين ؛ لأنه يبعد من عقل يوسف ودينه أن يرضى بأن يسجد له أبوه مع سابقته في حقوق الولادة والشيخوخة والعلم والدين وكمال النبوّة أو أنهم جعلوا يوسف كالقبلة وسجدوا شكراً لنعمة وجدانه، فإنه يقال : صليت للكعبة كما يقال : صليت إلى الكعبة./
قال حسان :
*ما كنت أعرف أنّ الأمر منصرف
** عن هاشم ثم منها عن أبي الحسن