حتى إذا استيأس الرسل} غاية لمحذوف دلّ عليه الكلام، أي : لا يغررهم تمادي أيامهم فإنّ من قبلهم أمهلوا حتى أيس الرسل من النصر عليهم في الدنيا ومن إيمانهم لانهماكهم في الكفر مترفين متمادين فيه من غير وازع ﴿وظنوا﴾، أي : أيقن الرسل ﴿أنهم قد كذبوا﴾ بالتشديد كما قرأه غير حمزة وعاصم والكسائي تكذيباً لا إيمان بعده، وأمّا بالتخفيف كما قرأه هؤلاء فالمعنى أنّ الأمم ظنوا أنّ الرسل قد أخلفوا ما وعدوا به من النصر عليهم ﴿جاءهم نصرنا﴾ لهم بخذلان أعدائهم ﴿فنجي من نشاء﴾، أي : النبيّ والمؤمنون، وقرأ ابن عامر وعاصم بنون مضمومة بعدها جيم مشدّدة وياء بعد الجيم مفتوحة، والباقون بنونين الأولى مضمومة والثانية ساكنة وتخفيف الجيم وسكون الياء ﴿ولا يرد بأسنا﴾، أي : عذابنا ﴿عن القوم المجرمين﴾، أي : المشركين ما نزل بهم.
ولما ذكر سبحانه وتعالى هذه القصص وحث على الاعتبار بها بقوله :﴿أفلم يسيروا﴾ أتبعه بأنّ في أحاديثهم أعظم عبرة فقال حثا على تأملها والاستبصار بها :
﴿لقد كان في قصصهم﴾، أي : يوسف وإخوته أو في قصص الرسل ﴿عبرة﴾، أي : عظة عظيمة ﴿لأولي الألباب﴾، أي : لذوي العقول المبرأة من شوائب الكدر ويعتبرون بها إلى ما يسعدهم ؛ لأنّ من قدر على ما قص من أمر يوسف عليه السلام لقادر على أن يعز محمداً ﷺ ويعلي كلمته وينصره على من عاداه كائناً من كان كما فعل بيوسف وغيره.
ولما كان من أجل العبرة في ذلك القطع بحقية القرآن نبه تعالى على ذلك بتقدير سؤال فقال تعالى :﴿ما كان حديثاً يفترى﴾، أي : يختلق ؛ لأنّ الذي جاء به من عند الله وهو محمد ﷺ لا يصح منه أن يفتريه ؛ لأنه لم يقرأ الكتب ولم يتلمذ لأحد، ولم يخالط العلماء، فمن المحال أن يفتري هذه القصة بحيث تكون مطابقة لما رأوه في التوراة من غير تفاوت كما يعلم من قوله تعالى :﴿ولكن تصديق الذي بين يديه﴾، أي : من الكتب الإلهية المنزلة من السماء كالتوراة والإنجيل، ففي ذلك إشارة إلى أنّ هذه القصة وردت على الوجه الموافق لما في التوراة من ذكر قصة يوسف عليه السلام ﴿و﴾ زاد على ذلك بقوله ﴿تفصيل﴾، أي : تبيين ﴿كل شيء﴾، أي : يحتاج إليه من الدين إذ ما من أمر دينيّ إلا وله سند من القرآن بوسط أو بغير وسط، وقيل : المراد تفصيل كل شيء من واقعة يوسف مع أبيه وإخوته.
قال الواحدي : وعلى التفسيرين جميعاً فهو من العامّ الذي أريد به الخاص كقوله تعالى :﴿ورحمتي وسعت كل شيء﴾ (الأعراف، ١٥٦)، أي : يجوز أن يدخل فيها وقوله تعالى :﴿وأوتيت من كل شيء﴾ (النمل، ٢٣). ﴿وهدى﴾ من الضلال ﴿ورحمة﴾ ينال بها خير الدارين ﴿لقوم يؤمنون﴾، أي : يصدّقون خصهم بالذكر ؛ لأنهم هم الذين انتفعوا به كقوله تعالى ﴿هدى للمتقين﴾ فسبحان من أنزله معجزاً باهراً وقاضياً بالحق لا يزال ظاهراً، وما رواه البيضاويّ تبعاً ل"الكشاف" من أنه ﷺ قال :"علموا أرقاءكم سورة يوسف فإنه أيما مسلم تلاها وعلمها أهله وما ملكت يمينه هون الله عليه سكرات الموت وأعطاه القوّة أن لا يحسد أحداً" حديث موضوع والله أعلم.
١٦٠
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٥٧