تنبيه : اليقين صفة من صفات العلم، وهي فوق المعرفة، والدراية وهي سكون الفهم مع ثبات الحكم وزوال الشك. ولما ذكر تعالى الدلائل الدالة على وحدانيته وكمال قدرته من رفع السماء بغير عمد وأحوال الشمس والقمر أردفها بذكر الدلائل الأرضية بقوله تعالى :﴿وهو الذي مدّ الأرض﴾، أي : بسطها طولاً وعرضاً لتثبت عليها الأقدام ويتقلب عليها الحيوان ولوشاء لجعلها كالجدار والأزج لا يستطاع القرار عليها هذا إذا قلنا أنّ الأرض مسطحة لا كرة، وعند أصحاب الهيئة أنها كرة فكيف يقولون بذلك ومدّ الأرض ينافي كونها كرة، كما ثبت بالدليل ؟
أجيب : بأنّ الأرض جسم عظيم والكرة إذا كانت في غاية الكبر كان كل قطعة منها تشاهد كالسطح كما أنّ الله تعالى جعل الجبال أوتاداً مع أنّ العالم من الناس يستقرّون عليها، فكذلك ومع هذا فالله تعالى قد أخبر أنه مدّ الأرض ودحاها وبسطها، وكل ذلك يدل على التسطيح والله تعالى أصدق قيلاً وأبين دليلاً من أصحاب الهيئة هذا هو الدليل الأوّل من الدلائل الأرضية.
الثاني منها قوله :﴿وجعل﴾، أي : وخلق ﴿فيها﴾، أي : الأرض ﴿رواسي﴾، أي : جبالاً ثوابت واحدها راسية، أي : ثابتة باقية في حيزها غير منتقلة عن مكانها لا تتحرّك ولا يتحرك ما هي راسية فيه وهذا لا بدّ وأن يكون بتخليق القادر الحكيم قال ابن عباس : أوّل جبل وضع على وجه الأرض جبل أبي قبيس ولما غلب على الجبال وصفها بالرواسي صارت الصفة تغني عن الموصوف، فجمعت جمع الاسم كحائط وكاهل قاله أبو حيان.
الثالث منها قوله تعالى :﴿وأنهاراً﴾، أي : وجعل في الأرض أنهاراً جارية لمنافع الخلق، والنهر المجرى الواسع من مجاري الماء، وأصله الاتساع، ومنه النهار لاتساع ضيائه. الرابع منها : قوله تعالى :﴿ومن كل الثمرات﴾ وهو متعلق بقوله تعالى :﴿جعل فيها﴾، أي : الأرض ﴿زوجين اثنين﴾، أي : وجعل فيها من جميع أنواع الثمار صنفين اثنين، والاختلاف إمّا من حيث الطعم كالحلو والحامض أو اللون كالأسود والأبيض، أو الحجم كالصغير والكبير، أو الطبيعة كالحارّ والبارد.
١٦٣
فإن قيل : الزوجان لا بدّ وأن يكونا اثنين فما الفائدة في اثنين ؟
أجيب : بأنه قيل : إنه تعالى أوّل ما خلق العالم وخلق فيه الأشجار خلق من كل نوع من الأنواع اثنين فقط فلو قال : خلق زوجين لم يعلم أنّ المراد النوع أو الشخص، فلما قال : اثنين علم أنه تعالى أوّل ما خلق من كل زوجين اثنين لا أقل ولا أزيد، فكما أنّ الناس وإن كان فيهم الآن كثرة فابتداؤهم من زوجين اثنين بالشخص آدم وحوّاء، فكذا القول في جميع الأشجار والزروع.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٦١
الخامس منها : قوله تعالى :﴿يغشي﴾، أي : يغطي ﴿الليل﴾ بظلمته ﴿النهار﴾، أي : والنهار الليل بضوئه فيعتدل فعلهما على ما قدّره الله تعالى لهما في السير من الزيادة والنقصان، وذلك من الحكم النافعة في الدين والدنيا الظاهرة لكل ذي عقل أنها تدبيره بفعله واختياره وقهره واقتداره. وقرأ شعبة وحمزة والكسائي بفتح الغين وتشديد الشين، والباقون بسكون الغين وتخفيف الشين. ولما ذكر تعالى هذه الدلائل النيرة والقواطع القاهرة جمعها وناطها بالفكر فقال تعالى :﴿إن في ذلك﴾، أي : الذي وقع التحدّث عنه من الآيات ﴿لآيات﴾، أي : دلالات ﴿لقوم يتفكرون﴾، أي : يجتهدون في الفكر فيستدلون بالصنعة على الصانع، وبالسبب على المسبب والتفكر والتدبر تصرف القلب في طلب معاني الأشياء، ثم أنه تعالى ذكر دليلاً ظاهراً جدًّا بقوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٦١
﴿وفي الأرض﴾، أي : التي أنتم سكانها تشاهدون ما فيها مشاهدة لا تقبل الشك ﴿قطع﴾، أي : بقاع مختلفة ﴿متجاورات﴾، أي : متقاربات يقرب بعضها من بعض واحدة طيبة، والأخرى سبخة لا تنبت وأخرى صالحة للزرع لا للشجر، وأخرى بالعكس، وأخرى قليلة الريع، وأخرى كثيرته مع انتظام الكل في الأرضية، وهو من دلائل قدرته تعالى ﴿وجنات﴾، أي : بساتين فيها أنواع الأشجار من نخيل وأعناب وغيرذلك كما قال تعالى :﴿من أعناب وزرع ونخيل صنوان﴾ جمع صنو وهي النخلات يجمعها أصل واحد وتتشعب فروعها، ومنه قوله ﷺ في عمه العباس :"عمّ الرجل صنو أبيه" يعني أنهما من أصل واحد ﴿وغير صنوان﴾، أي : متفرقات مختلفة الأصول وسمي البستان جنة ؛ لأنه يستر بأشجاره الأرض.