حتى إذا كنتم} أي : كوناً لا براح لكم منه. ﴿في الفلك﴾ أي : السفن، فإن قيل : كيف جعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر مع أنَّ الكون في الفلك متقدّم لا محالة على التسيير في البحر ؟
أجيب : بأنه لم يجعل الكون في الفلك غاية للتسيير، بل تقدير الكلام كأنه قيل : هو الذي يسيركم حتى إذا وقع في جملة تلك التسييرات الحصول في الفلك كان كذا وكذا، ولفظ الفلك يطلق على الواحد وعلى الجمع، فإن أريد الواحد كان كبناء قفل، أو الجمع كان كبناء حمر، والمراد هنا : الجمع لقوله تعالى :﴿وجرين بهم﴾ أي : بمن فيها، وعدل عن الخطاب إلى الغيبة للمبالغة كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها، ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح والالتفات في الكلام عن الغيبة إلى الحضور والعكس في فصيح كلام العرب. ﴿بريح طيبة﴾ أي : لينة الهبوب. ﴿وفرحوا بها﴾ أي : بتلك الريح وبالفلك الجارية بها، وقوله تعالى :﴿جاءتها﴾ جواب إذا والضمير للفلك أو للريح الطيبة بمعنى تلقتها ﴿ريح عاصف﴾ أي : شديدة الهبوب فأزعجت سفينتهم وأساءتهم ﴿وجاءهم الموج﴾ أي : وجاء ركاب السفينة الموج وهو ما ارتفع وعلا من ضراب الماء في البحر. وقيل : هو شدّة حركة الماء واختلاطه. ﴿من كل مكان﴾ أي :
١٥
يعتاد مجيء الموج منه فأرجف قلوبهم. ﴿وظنوا أنهم أحيط بهم﴾ أي : فظنوا أنَّ الهلاك قد أحاط بهم وسدت عليهم مسالك الخلاص، كمن أحاط بهم العدوّ ﴿دعوا الله مخلصين﴾ أي : من غير اشتراك به ﴿له الدين﴾ أي : الدعاء ؛ لأنهم لا يدعون حينئذٍ غيره ؛ لأنَّ الإنسان في هذه الحالة لا يطمع إلا في فضل الله ورحمته ويصير منقطعاً عن جميع الخلق، ويصير بقلبه وروحه وجميع أجزائه متضرعاً إلى الله تعالى. وقوله تعالى :﴿لئن أنجيتنا من هذه﴾ الشدائد التي نحن فيها وهي الريح العاصفة والأمواج الشديدة ﴿لنكونن من الشاكرين﴾ على إرادة القول أو مفعول دعوا ؛ لأنه من جملة القول، أي : لنكونن من الشاكرين لك بالإيمان والطاعة على إنعامك علينا بانجائنا مما نحن فيه من هذه الشدّة.
﴿فلما أنجاهم﴾ أي : هؤلاء الذين ظنوا أنهم أحيط بهم من الشدّة التي كانوا فيها إجابة لدعائهم ﴿إذا هم يبغون﴾ أي : فأجاؤوا الفساد وسارعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر والمعاصي ﴿في الأرض﴾ أي : جنسها ﴿بغير الحق﴾.
فإن قيل : البغي لا يكون بحق فما معنى قوله بغير ؟
أجيب : بأنه قد يكون بحقًّ كاستيلاء المسلمين على أرض الكفرة وهدم دورهم، وإحراق زروعهم، وقطع أشجارهم، كما فعل ﷺ ببني قريظة، فإنّ ذلك إفساد بحق. قال صاحب "المفردات" : البغي على ضربين : أحدهما : غير محمود وهو مجاوزة الحق إلى الباطل وإلى الشبهة، والآخر : كفعل المسلمين ما ذكر ﴿يا أيها الناس إنما بغيكم﴾ أي : ظلمكم ﴿على أنفسكم﴾ يعود وباله عليها خاصة. قال ﷺ "أسرع الخير ثواباً صلة الرحم، وأعجل الشر عقاباً البغي واليمين الفاجرة". وروي "ثنتان يعجلهما الله تعالى في الدنيا : البغي، وعقوق الوالدين". وعن ابن عباس : لو بغى جبل على جبل لدك الباغي. وكان المأمون يتمثل بهذين البيتين في أخيه :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١١
يا صاحب البغي إنّ البغي مصرعة ** فاربع فخير فعال المرء أعدله
*فلو بغى جبل يوماً على جبل ** لاندك منه أعاليه وأسفله
وعن محمد بن كعب : ثلاث من كن فيه كن عليه البغي والنكث والمكر. وعلى تقدير الانتفاع بالبغي هو عرض زائل كما قال تعالى :﴿متاع الحياة الدنيا﴾ أي : لا يتهيأ لكم بغي بعضكم على بعض إلا أياماً قليلة، وهي مدّة حياتكم مع قصرها وسرعة انقضائها. ﴿ثم إلينا﴾ بعد البعث ﴿مرجعكم﴾ في القيامة ﴿فننبئكم﴾ أي : فنخبركم ﴿بما كنتم تعملون﴾ في الدنيا من البغي والمعاصي فنجازيكم عليها. وقرأ حفص متاع بنصب العين على أنه مصدر مؤكد، أي : تتمتعون متاع الحياة الدنيا، والباقون بالرفع على أنه خبر بغيكم وعلى أنفسكم صلته، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره : ذلك متاع الحياة الدنيا وعلى أنفسكم خبر بغيكم. ولما قال تعالى :﴿يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا﴾ أتبعه بمثل
١٦
عجيب ضربه لمن يبغي في الأرض، ويغتر بالدنيا، ويشتدّ تمسكه بها، ويقوى إعراضه عن أمر الآخرة، والتأهب لها، بقوله تعالى :