وثالثهما : أنّ كلمة من معناها الباء والتقدير يحفظونه بأمر اللّه وبإعانته، وقال كعب الأحبار : لولا أنّ الله تعالى وكّل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم لتخطفتكم الجنّ، وقال ابن جريج : معنى يحفظونه، أي : يحفظون عليه الحسنات والسيئات، فإن قيل : ما الفائدة في تخصيص هؤلاء الملائكة مع بني آدم وتسليطهم عليهم ؟
أجيب : بأن الإنسان إذا علم أنَّ الملائكة تحصي عليه أعماله كان إلى الحذر من المعاصي أقرب ؛ لأنّ من اعتقد جلالة الملائكة وعلو مراتبهم، فإذا حاول الإقدام على معصية واعتقد أنهم يشاهدونها زجره الحياء منهم عن الإقدام إليها كما يزجره إذا حضر من يعظمه من البشر، وإذا علم أنّ الملائكة تحصي عليه تلك الأعمال، كان ذلك أيضاً ردعاً له عنها، وإذا علم أنّ الملائكة يكتبونها كان الردع أكمل. ولما دل ذلك على غاية القدرة والعظمة قال تعالى :﴿إنّ الله﴾ مع قدرته ﴿لا يغير ما بقوم﴾، أي : لا يسلبهم نعمته ﴿حتى يغيروا ما﴾، أي : الذي ﴿بأنفسهم﴾ من الأحوال الجميلة إلى الأحوال القبيحة ﴿وإذا أراد الله بقوم سوءً﴾، أي : هلاكاً وعذاباً ﴿فلا مردّ له﴾أي لا يقدر أحد لا من المعقبات ولا من غيرها أن يرد مانزل بهم من قضائه وقدره ﴿ومالهم﴾، أي : إن أراد اللّه بهم سواءً ﴿من دونه﴾، أي : غير اللّه ﴿من وال﴾ يلي أمرهم وينصرهم ويمنع العذاب عنهم، وقرأ ابن كثير في الوقف بإثبات الياء بعد اللام دون الوصل، والباقون بغير ياء بعد اللام وقفاً ووصلاً. ولما خوّف الله تعالى بقوله :﴿وإذا أراد اللّه بقوم سوءً﴾ اتبعه بذكر آيات تشبه النعم والإحسان من بعض الوجوه، وتشبه العذاب والقهر من بعض الوجوه بقوله تعالى :
﴿هو الذي يريكم البرق خوفاً﴾، أي : للمسافرين من الصواعق ﴿وطمعاً﴾، أي : للمقيم في المطر، وقيل : إنّ كل شيء يحصل في الدنيا يحتمل الخير والشر، فهو خير بالنسبة إلى قوم وشر بالنسبة إلى آخرين، فكذلك المطر خير في حق من يحتاج إليه في أوانه وشر في حق من يضرّه ذلك إما بحسب المكان وإما بحسب الزمان، والبرق معروف وهو لمعان يظهر من بين السحاب ﴿وينشىء﴾، أي : يخلق ﴿السحاب الثقال﴾، أي : بالمطر. تنبيه خوفاً وطمعاً مصدران ناصبهما محذوف، أي : تخافون خوفاً وتطمعون طمعاً، ويجوز غير ذلك، والسحاب قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : غربال الماء وهو غيم ينسحب في السماء، وهو اسم جنس جمعي واحده سحابة وأكثر المفسرين على أنّ الرعد في قوله تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٦٦
ويسبح الرعد بحمده﴾
على أنه اسم للملك الذي يسوق السحاب والصوت المسموع منه تسبيحه ولا يردّ ذلك عطف الملائكة عليه في قوله تعالى :﴿والملائكة﴾، أي : تسبحه ﴿من خيفته﴾، أي : الله ؛ لأنه أفرد بالذكر تشريفاً له، كما في قوله تعالى :﴿وملائكته ورسله وجبريل وميكال﴾ (البقرة، ٩٨). قال ابن عباس :"أقبلت يهود على النبيّ ﷺ فقالوا : أخبرنا عن الرعد ما هو ؟
فقال : ملك من
١٦٩
الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب". قال ابن الأثير : والمخاريق جمع مخراق وهو في الأصل ثوب يلف ويضرب به الصبيان بعضهم بعضاً وهي آلة تزجر بها الملائكة السحاب وتسوقه، وقد جاء تفسير المخراق في حديث آخر، وهو سوط من نور تزجر به الملائكة السحاب. وعن ابن عباس أنه قال : من سمع صوت الرعد فقال : سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير، فإن أصابته صاعقة فعليّ ديته. وعن عبد الله بن الزبير أنه كان إذا سمع صوت الرعد ترك الحديث وقال : سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته. وفي بعض الأخبار يقول الله تعالى :"لو أنّ عبادي أطاعوني لسقيتهم المطر بالليل وأطلعت الشمس عليهم بالنهار ولم أسمعهم صوت الرعد". وفي رواية عن ابن عباس : الرعد ملك موكل بالسحاب يسوقه حيث يؤمر وأنه يحوز الماء في نقرة إبهامه، وأنه يسبح الله تعالى إذا سبح لا يبقى ملك في السماء إلا رفع صوته بالتسبيح فعندها ينزل المطر. وعن الحسن أنّ الرعد خلق من خلق الله ليس بملك، وقد اختلفت الروايات في ذلك، ففي بعضها أنه ملك موكل بالسحاب، وفي بعضها أنه ملك ينعق بالغيث كما ينعق الراعي بغنمه، وفي بعضها أنه ملك يسوق السحاب بالتسبيح كما يسوق الحادي الإبل بحدائه، وفي بعضها : أنه ملك سمي به وهو الذي تسمعون صوته، وقد مرّت الإشارة إلى ذلك في البقرة، وقيل : هؤلاء الملائكة أعوان الرعد جعل الله تعالى له أعواناً، فهم خائفون خاضعون طائعون، وقيل : المراد بهم جميع الملائكة واستظهر وقوله تعالى :﴿ويرسل الصواعق﴾ جمع صاعقة وهي العذاب المهلك تنزل من البرق فتحرق من تصيبه ﴿فيصيب بها من يشاء﴾ فيهلكه ﴿وهم يجادلون في الله﴾ حيث يكذبون رسول الله ﷺ والتكذيب التشديد في الخصومة.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٦٦


الصفحة التالية
Icon