قال أبو حيان : مضمحلاً، أي : متلاشياً لا منفعة فيه ولا بقاء له. وقال ابن الأنباري : متفرّقاً، وانتصابه على الحال. ﴿وأما ما ينفع الناس﴾ من الماء ومن الجواهر الذي هو مثل الحق. ﴿فيمكث في الأرض﴾، أي : يثبت ويبقى لينتفع به أهلها ﴿كذلك﴾، أي : مثل ذلك الضرب ﴿يضرب﴾، أي : يبين ﴿الله﴾ الذي له الإحاطة الكاملة علماً وقدرة ﴿الأمثال﴾ فيجعلها في غاية الوضوح، وإن كانت في غاية الغموض. قال أهل المعاني : هذا مثل ضربه الله تعالى للحق والباطل، فالباطل وإن علا على الحق في بعض الأوقات والأحوال، فإن الله يمحقه ويبطله، ويجعل العاقبة للحق وأهله كالزبد الذي يعلو على الماء، فيذهب الزبد فيبقى الماء الصافي الذي ينفع، وكذلك الصفو من هذه الجواهر يبقى، ويذهب العلو الذي هو الكدر وهو ما ينفيه الكير مما يذاب من جواهر الأرض كذلك الحق والباطل. وقيل : هذا مثل للمؤمن واعتقاده وانتفاعه بالإيمان كمثل الماء الصافي الذي ينتفع به الناس، ومثل الكافر وخبث اعتقاده كمثل الزبد الذي لا ينتفع به البتة. ثم إنه تعالى لما ذكر الحق والباطل ذكر ما لأهلهما من الثواب والعقاب فقال تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٧١
للذين استجابوا لربهم﴾، أي : أجابوه إلى ما دعاهم إليه من التوحيد والعدل والنبوّة وبعث الأموات، والتزام الشرائع الواردة على لسان رسوله محمد ﷺ ﴿الحسنى﴾ قال ابن عباس وقال أهل المعاني : الحسنى هي المنفعة العظمى في الحسن، وهي المنفعة الخالصة عن شوائب المضرّة الدائمة الخالصة عن الانقطاع المقرونة بالتعظيم والإجلال، ولم يذكر تعالى الزيادة هاهنا ؛ لأنه تعالى ذكرها في سورة أخرى وهي قوله تعالى ﴿للذين أحسنوا الحسنى وزيادة﴾ (يونس، ٢٦) هذا ما لأهل الحق، وأمّا ما لأهل الباطل فهو ما ذكره بقوله جل من قائل :﴿والذين لم يستجيبوا له﴾ وهم الكفرة فلهم أنواع ثلاثة من العذاب والعقوبة، فالنوع الأوّل قوله تعالى :﴿لو أنّ لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به﴾، أي : جعلوه فكاك أنفسهم بغاية جهدهم ؛ لأنّ المحبوب بالذات لكل إنسان هو ذاته، وكل ما هو سواه فهو إنما يحبه لكونه وسيلة إلى مصالح ذاته، فإذا كانت النفس في الضر والألم والتعب وكان مالكاً لما يساوي عالم الأجناس والأرواح، فإنه يرضى بأن يجعله فداء نفسه ؛ لأنّ المحبوب بالعرض لا بدّ وأن يكون فداء لما كان محبوباً بالذات، والكناية في به عائدة إلى ما في قوله ما في الأرض.
والنوع الثاني من أنواع العذاب الذي أعده الله تعالى لهم ما ذكره بقوله تعالى :﴿أولئك لهم
١٧٣
سوء الحساب﴾ وهو المناقشة فيه، وعن النخعي بأن يحاسب العبد بذنبه كله لا يغفر منه شيء، وإنما نوقشوا ؛ لأنهم أحبوا الدنيا وأعرضوا عن المولى، فلما ماتوا بقوا محرومين عن معشوقهم الذي هو الدنيا وبقوا محرومين من الفوز بسعادة خدمة المولى.
والنوع الثالث من عقوباتهم ما ذكره بقوله تعالى :﴿ومأواهم﴾، أي : مرجعهم ﴿جهنم﴾ وذلك لأنهم كانوا غافلين عن الاشتغال بخدمة المولى عاشقين للذات الدنيا، فإذا ماتوا فارقوا معشوقهم، فيحترقون على مفارقتها، وليس عندهم شيء آخر يجبر هذه المصيبة، فلذلك كان مأواهم جهنم. ثم إنه تعالى وصف هذا المأوى بقوله عز من قائل :﴿وبئس المهاد﴾، أي : الفراش، والمخصوص بالذم محذوف، أي : جهنم. ونزل في حمزة وأبي جهل، وقيل : في عمار وأبي جهل.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٧١
﴿أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق﴾، أي : يؤمن به ويعمل بما فيه، وهو حمزة أو عمار رضي الله تعالى عنهما. ﴿كمن هو أعمى﴾، أي : أعمى البصيرة ولا يؤمن به ولا يعمل بما فيه وهو أبو جهل، قال ابن الخازن في تفسيره : وحمل الآية على العموم أولى، وإن كان السبب مخصوصاً، والمعنى : لا يستوي من يبصر الحق ويتبعه ومن هو لا يبصر الحق ولا يتبعه، وإنما شبه الكافر والجاهل بالأعمى ؛ لأنّ الأعمى لا يهتدي لرشد ﴿إنما يتذكر﴾، أي : يتعظ ﴿أولو الألباب﴾، أي : أصحاب العقول الذين يطلبون من كل صورة معناها، ويأخذون من كل قشرة لبابها، ويعبرون من ظاهر كل حديث إلى سره ولبابه.
﴿الذين يوفون بعهد الله﴾، أي : ما عاقدوه على أنفسهم من الاعتراف بربوبيته حين قالوا : بلى، أو ما عهد الله تعالى عليهم في كتبه. ﴿ولا ينقضون الميثاق﴾، أي : ما واثقوه من المواثيق بينهم وبين الله تعالى، وبينهم وبين العباد، فهو تعميم بعد تخصيص.
﴿والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل﴾، أي : من الإيمان والرحم وغير ذلك، والأكثرون على أنه أراد به صلة الرحم. عن أبي موسى أنّ عبد الرحمن بن عوف عاد أبا الدرداء فقال عبد الرحمن : سمعت رسول الله ﷺ يقول : فيما يحكي عن ربه تعالى :"أنا الرحمن وهي الرحم شققت
١٧٤