﴿ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً﴾، أي : نساء ينكحونهنّ فكان لسليمان امرأة وسرية وكان لداود عليه السلام إمرأة ﴿وذرية﴾، أي : أولاداً فأنت مثلهم، وكانوا يقولون أيضاً : لو كان رسولاً من عند الله لكان، أي : شيء طلبناه منه من المعجزات أتى به فردّ الله تعالى عليهم بقوله تعالى :﴿وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بأذن الله﴾، أي : بإرادته ؛ لأنّ المعجزة الواحدة كافية في إزالة العذر، والعلة وفي إظهار الحجة والبينة، وأمّا الزائد عليها فهو مفوض إلى مشيئة الله تعالى إن شاء أظهرها وإن لم يشأ لم يظهرها لا اعتراض لأحد عليه في ذلك. ولما توعدهم ﷺ نزول العذاب، وظهور النصرة له ولقومه وتأخر ذلك عنهم قالوا : لو كان نبياً صادقاً لما ظهر كذبه، فردّ الله تعالى عليهم بقوله تعالى ﴿لكل أجل﴾، أي : مدّة ﴿كتاب﴾، أي : مكتوب قد أثبت فيه أن أمر كذا يكون في وقت كذا من الثواب والعقاب والأحكام، والإتيان بالآيات وغيرها إثباتاً ونسخاً على ما تقتضيه الحكمة. ولما اعترضوا على رسول الله ﷺ وقالوا : إنّ محمداً يأمر أصحابه بأمر اليوم، ثم يأمر بخلافه غداً، وما سبب ذلك إلا أنه يقوله من تلقاء نفسه، فردّ الله تعالى عليهم بقوله تعالى :
﴿يمحو الله ما يشاء﴾، أي : محوه من الشرائع والأحكام وغيرها بالنسخ فيرفعه ﴿ويثبت﴾ ما يشاء إثباته من ذلك بأن يقرّه ويمضي حكمه كقوله تعالى :﴿ما ننسخ من آية﴾ (البقرة، ١٠٦) إلى قوله تعالى :﴿ألم تعلم أنّ الله على كل شيء قدير﴾ (البقرة، ١٠٦). وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بسكون الثاء المثلثة وتخفيف الباء الموحدة، والباقون بفتح الثاء وتشديد الباء الموحدة.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٨٢
تنبيه : في هذه الآية قولان :
أحدهما أنها عامة في كل شيء كما يقتضيه ظاهر اللفظ، وهذا مذهب عمر وابن مسعود وغيرهما قالوا : إنّ الله يمحو من الرزق ويزيد فيه، وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر. وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان يطوف بالبيت وهو يبكي ويقول : اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة، فأثبتني فيها، وإن كنت كتبت عليّ الشقاوة فامحني وأثبتني
١٨٣
في أهل السعادة والمغفرة، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أمّ الكتاب، ومثله عن ابن مسعود وهذا التأويل رواه جابر عن رسول الله ﷺ وفي بعض الآثار : أنّ الرجل يكون قد بقي من عمره ثلاثون سنة فيقطع رحمه فيردّ إلى ثلاثة أيام، والرجل يكون قد بقي من عمره ثلاثة أيام فيصل رحمه فيرد إلى ثلاثين سنة. وروي أنّ الله تعالى ينزل، أي : أمره في آخر ثلاث ساعات تبقى من الليل فينظر في الساعة منهنّ في أمّ الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره، فيمحو ما يشاء ويثبت. والقول الثاني أنّ هذه الآية خاصة في بعض الأشياء دون بعض، واختلفوا على هذا القول فقال سعيد بن جبير وقتادة : يمحو الله ما يشاء من الشرائع والفرائض، فينسخه ويبدله ويثبت ما يشاء منها فلا ينسخه. وقال ابن عباس : يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا الرزق والأجل والسعادة والشقاوة، واستدل لهذا بما رواه حذيفة بن أسيد قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :"إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله ملكاً فصوّرها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظمها ثم قال : يا رب أذكر أم أنثى ؟
فيقضي ربك ما يشاء ويكتب الملك ثم يقول الملك : يا رب رزقه فيقضي ربك ما يشاء، ويكتب الملك ثم يقول : يا رب أشقي أم سعيد ؟
فيكتبان فيكتب عمله وأثره وأجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد ولا ينقص".
وقال ابن عطية عن ابن عباس : هو الرجل يعمل بطاعة الله تعالى، ثم يرجع لمعصية الله تعالى، فيموت على ضلاله فهو الذي يمحو الذي يثبت يعمل الرجل بطاعة الله، فيموت وهو في طاعته فهو الذي يثبت. وقال الحسن : يمحو ما يشاء، أي : من جاء أجله يذهب به ويثبت من لم يجيء أجله إلى أجله. وعن سعيد بن جبير قال : يمحو ما يشاء من ذنوب العباد فيغفرها، ويثبت ما يشاء فلا يغفرها. وقال عكرمة : يمحو الله ما يشاء من الذنوب بالتوبة، ويثبت بدل الذنوب حسنات كما قال تعالى :﴿فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات﴾. (الفرقان، ٧٠) وقال السدي : يمحو الله ما يشاء يعني القمر ويثبت ما يشاء يعني الشمس بيانه قوله تعالى :﴿فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة﴾ (الإسراء، ١٢). وقال الربيع : هذا في الأرواح يقبضها الله تعالى عند النوم، فمن أراد موته أمسكه، ومن أراد بقاءه أثبته وردّه إلى صاحبه بيانه قوله تعالى :﴿الله يتوفى الأنفس حين موتها﴾ (الزمر، ٤٢) الآية. وقيل إنّ الله تعالى يثبت في أوّل كل سنة حكمها، فإذا مضت السنة محاه، وأثبت حكماً آخر للسنة المستقبلة. وقيل : يمحو الله الدنيا ويثبت الآخرة.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٨٢