سورة إبراهيم عليه السلام
مكية
إلا قوله تعالى :﴿ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله﴾ (إبراهيم، ٢٨) الآيتين، وهي اثنتان وخمسون آية وعدد كلماتها وإحدى وثلاثون كلمة، وعدد حروفها ثلاثة آلاف وأربعة وثلاثون حرفاً
﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾ قوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٨٧
١٨٨
﴿الر﴾ تقدّم الكلام عليها أول يونس وهود. وقوله تعالى :﴿كتاب﴾ خبر لمبتدأ محذوف، أي : هذا القرآن كتاب، أو الر، إن قلنا : إنها مبتدأ والجملة بعده صفة، ويجوز أن يرتفع بالابتداء وخبره الجملة بعده وجاز الابتداء بالنكرة ؛ لأنها موصوفة تقديراً، تقديره كتاب، أي : كتاب يعني عظيماً من بين الكتب السماوية ﴿أنزلناه إليك﴾ يا أشرف الخلق عند الله تعالى ﴿لتخرج الناس﴾، أي : عامة قومك وغيرهم بدعائك إياهم ﴿من الظلمات﴾، أي : الكفر وأنواع الضلالة ﴿إلى النور﴾، أي : الإيمان والهدى. قال الرازي : والآية دالة على أنّ طرق الكفر والبدع كثيرة وأنّ طريق الحق ليس إلا واحداً ؛ لأنه تعالى قال :﴿لتخرج الناس من الظلمات﴾ وهي صيغة جمع، وعبر عن الإيمان والهدى بالنور، وهو لفظ مفرد وذلك يدل على أنّ طرق الجهل والكفر كثيرة وأنّ طريق العلم والإيمان ليس إلا واحداً.
تنبيه : القائلون بأن معرفة الله تعالى لا يمكن تحصيلها إلا من تعليم الرسول، احتجوا بهذه الآية، وذلك يدلّ على أنّ معرفة الله تعالى لا تحصل إلا من طريق التعليم. وأجيب : بأنّ الرسول ﷺ كالمنبه وأمّا المعرفة فهي إنما تحصل من الدليل وقوله تعالى :﴿بإذن ربهم﴾ متعلق بالإخراج، أي : بتوفيقه وتسهيله، ويبدل من إلى النور ﴿إلى صراط﴾، أي : طريق ﴿العزيز﴾، أي : الغالب ﴿الحميد﴾، أي : المحمود على كل حال المستحق لجميع المحامد، وفي قوله :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٨٨
الله﴾
قراءتان، فقرأ نافع وابن عامر برفع الهاء وصلاً وابتداء على أنه مبتدأ خبره ﴿الذي له ما في السموات وما في الأرض﴾، أي : ملكااً وخلقاً، وقرأ الباقون بالجرّ على أنه بدل أو عطف بيان وما بعده صفة.
تنبيه : ذهب جماعة من المحققين إلى أنّ قولنا : الله جار مجرى الاسم العلم لذات الله سبحانه وتعالى، وذهب قوم آخرون إلى أنه لفظ مشتق. قال الرازي : والحق عندنا هو الأوّل ؛ لأنّ الأمّة لما اجتمعت على أنّ قولنا : لا إله إلا الله يوجب التوحيد المحض علمنا أنّ قولنا : الله جار مجرى الاسم العلم. وقد قال تعالى :﴿هل تعلم له سمياً﴾ (مريم، ٦٥)، أي : هل تعلم من اسمه الله غير الله، وذلك يدل على قولنا : الله اسم لذاته المخصوصة، ولذا استشكل قراءة الجرّ إذ الترتيب الحسن أن يذكر الاسم، ثم يذكر عقبه الصفات كقوله تعالى :﴿هو الله الخالق البارئ المصور﴾ (الحشر، ٢٤) وأمّا الخالق الله فلا يحسن.
وأجيب عن ذلك بأنه لا يبعد أن تذكر الصفة أوّلاً، ثم يذكر الاسم ثم تذكر الصفة مرّة أخرى كما يقال : مررت بالإمام الأجل محمد الفقيه، وهو بعينه نظير قوله تعالى :﴿صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السموات وما في الأرض﴾ والآية تفيد حصر ما في السموات وما في الأرض له لا لغيره، وذلك ليدلّ على أنه لا مالك إلا الله، ولا حاكم إلا الله، وأنه تعالى خالق لأعمال العباد ؛ لأنها حاصلة في السموات والأرض، فوجب القول بأنّ أفعال العباد له بمعنى كونها مملوكة له، والملك عبارة عن القدرة فوجب كونها مقدورة لله، وإذا ثبت أنها مقدورة لله وجب وقوعها بقدرة الله، وإلا لكان العبد قد منع الله تعالى من إيقاع مقدوره، وذلك محال، ثم إنه تعالى لما ذكر ذلك عطف على الكفار بالوعيد فقال تعالى :﴿وويل للكافرين﴾، أي : الذين تركوا عبادة من يستحق العبادة الذي له ما في السموات وما في الأرض، وعبدوا من لا يملك شيئاً البتة، بل هو
١٨٩
مملوك لله تعالى ؛ لأنه من جملة ما في السموات وما في الأرض، وويل مبتدأ، وجاز الابتداء به ؛ لأنه دعاء كسلام عليكم وللكافرين خبره، وقوله تعالى :﴿من عذاب شديد﴾، أي : يعذبهم في الآخرة متعلق بويل ولا يضر الفصل بالخبر، ثم وصفهم بقوله تعالى :
﴿الذين يستحبون﴾، أي : يختارون ﴿الحياة الدنيا على الآخرة﴾، أي : يؤثرونها عليها ﴿ويصدّون عن سبيل الله﴾، أي : يمنعون الناس عن قبول دين الله ﴿ويبغونها﴾، أي : السبيل ﴿عوجاً﴾، أي : معوجة والأصل ويبغون لها زيغاً وميلاً، فحذف الجار، وأوصل الفعل إلى الضمير ﴿أولئك﴾، أي : الموصوفون بهذه الصفات ﴿في ضلال بعيد﴾، أي : عن الحق وإسناد البعد إلى الضلال إسناد مجازي ؛ لأنّ البعيد هم الضلال بميلهم عن الباقي إلى الفاني. ثم ذكر ما يجري مجرى تكميل النعمة والإحسان في الوجهين بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٨٨
وما أرسلنا من رسول﴾
، أي : في زمن من الأزمان ﴿إلا بلسان﴾، أي : لغة ﴿قومه﴾ أمّا بالنسبة إلى الرسول ؛ فلأنه تعالى بين أنّ سائر الأنبياء كانوا مبعوثين إلى قومهم خاصة، وأما أنت يا محمد فمبعوث إلى عامة البشر، وكان هذا الإنعام في حقك أكمل وأفضل، وأمّا بالنسبة إلى عامّة الخلق، فهو أنه تعالى ذكر أنه ما بعث رسولاً إلا بلسان أولئك القوم ﴿ليبين لهم﴾ ما أمروا به فيفهموه عنه بيسر وسرعة ؛ لأنّ ذلك أسهل لفهم أسرار تلك الشريعة، والوقوف على حقائقها وأبعد عن الغلط والخطأ.


الصفحة التالية
Icon