ومن كمال رحمته وجوده وكرمه على عباده أن دعاهم إلى الجنة التي هي دار السلام، وفيه دليل على أنّ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ؛ لأنّ العظيم لا يدعو إلا إلى عظيم، ولا يصف إلا عظيماً. وقد وصف الله تعالى الجنة في آيات كثيرة من كتابه. وعن جابر قال : جاءت ملائكة إلى النبيِّ ﷺ وهو نائم فقالوا : إنّ صاحبكم هذا مثله كمثل رجل بنى داراً، وجعل فيها مائدة، وبعث داعياً فمن أجب الداعي دخل الدار، وأكل من المائدة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار، ولم يأكل من المائدة، والدار الجنة، والداعي محمد ﷺ ﴿و﴾ الله ﴿يهدي من يشاء﴾ من عباده بما يخلق في قلبه من الهداية ﴿إلى صرط مستقيم﴾ وهو دين الإسلام، عمّ سبحانه وتعالى بالدعوة أوّلا إظهاراً للحجة، وخص بالهداية ثانياً إظهاراً للقدرة ؛ لأنَّ الحكم له في خلقه. وقال الجنيد : الدعوة عامة، والهداية خاصة، بل الهداية عامة والصحبة خاصة، بل الصحبة عامة والاتصال خاص. وقيل : يدعو بالآيات، ويهدي للحقائق والمعارف. وقيل : الدعوة لله والهداية من الله. وقال بعضهم : لا تنفع الدعوة لمن لم يسبق له من الله الهداية.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١١
١٨
﴿للذين أحسنوا﴾ أي : بالإيمان ﴿الحسنى﴾ وهي الجنة ﴿وزيادة﴾ وهي النظر إليه تعالى في الآخرة، كما في الحديث الصحيح :"إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا أن يا أهل الجنة فيكشف الحجاب فينظرون إليه فو الله ما أعطاهم الله شيئاً هو أحب إليهم منه". والزمخشري في "كشافه" قال في هذا : وزعمت المشبهة والمجبرة ؛ لأنّ المعتزلة ينكرون الرؤية، ويُردّ عليهم قول الله تعالى :﴿وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة﴾ (القيامة، ٢٢، ٢٣) فأثبت الله لأهل الجنة أمرين أحدهما : النضارة وهي حسن الوجوه، وذلك من نعيم الجنة. والثاني : النظر إلى الله تعالى. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : الحسنى الحسنة، والزيادة عشرة أمثالها. وعن الحسن عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف. وعن مجاهد : الزيادة مغفرة من الله ورضوان. وعن يزيد بن شجرة : الزيادة أن تمرّ السحابة بأهل الجنة فتقول : ما تريدون أن أمطركم، فلا يريدون شيئاً إلا أمطرتهم، ولا مانع من أن تفسر الزيادة بذلك كله ؛ إذ لا تنافي فيها والفضل واسع. ﴿ولا يرهق﴾ أي : يغشى ﴿وجوههم قتر﴾ أي : سواد ﴿ولا ذلة﴾ أي : كآبة وكسوف يظهر منه الانكسار والهوان. ﴿أولئك﴾ أي : هؤلاء الذين وصفهم الله هم ﴿أصحاب الجنة﴾ وقوله تعالى :﴿هم فيها خالدون﴾ إشارة إلى كونها دائمة آمنة من الانقطاع ولا زوال فيها ولا انقراض، بخلاف الدنيا وزخارفها. ولما بين تعالى حال الفضل فيمن أحسن بيّن حال العدل فيمن أساء بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٨
والذين كسبوا السيئات﴾ أي : الشرك ﴿جزاء سيئة﴾ منهم ﴿بمثلها﴾ بعدل الله من غير زيادة، وفي ذلك إشارة إلى الفرق بين السيئات والحسنات ؛ لأنَّ الحسنات يضاعف ثوابها لعاملها من الواحد إلى العشرة إلى السبعمائة إلى أضعاف كثيرة تفضلاً منه تعالى وتكرّماً. وأما السيئة فإنه يجازي عليها بمثلها عدلاً منه تعالى ﴿وترهقهم﴾ أي : تغشاهم ﴿ذلة﴾ عكس أهل الجنة ﴿ما لهم من الله من عاصم﴾ أي : مانع يمنعهم من عذاب الله إذا نزل بهم ﴿كأنما أغشيت﴾ أي : ألبست ﴿وجوههم قطعاً من الليل مظلماً﴾ لفرط سوادها وظلمتها. وقرأ ابن كثير والكسائي بسكون الطاء، أي : جزء، والباقون بفتحها جمع قطعة، أي : أجزاء ﴿أولئك﴾ أي : هؤلاء الأشقياء ﴿أصحاب النار هم فيها خالدون﴾ لا يتمكنون من مفارقتها.
﴿و﴾ اذكر ﴿يوم نحشرهم﴾ أي : الفريقين الناجين والهالكين، العابدين منهم والمعبودين، من كل جانب وناحية إلى موقف الحساب حال كونهم ﴿جميعاً﴾ لا يتخلف منهم أحد وهو يوم القيامة والحشر الجمع بكره إلى موقف واحد ﴿ثم نقول للذين أشركوا مكانكم﴾ أي : الزموا مكانكم لا تبرحوا منه حتى تنظروا ما يفعل بكم، وقوله تعالى :﴿أنتم﴾ تأكيد للضمير المستتر في
١٩