الثاني : أنهم خرجوا من قبورهم، فبرزوا لحساب الله تعالى وحكمه. ثم حكى الله تعالى ؟
عنهم أنّ الضعفاء يقولون للرؤوساء هل تقدرون على دفع عذاب الله تعالى عنا بقوله تعالى :﴿فقال الضعفاء﴾، أي : الأتباع جمع ضعيف يريد به ضعفاء الرأي ﴿للذين استكبروا﴾، أي : المتبوعين الذين طلبوا الكبر، وادّعوه فاستغووهم به حتى تكبروا على الرسل، وقوله تعالى :﴿إنا كنا لكم تبعاً﴾ يصح أن يكون مصدراً نعت به للمبالغة، أو على إضمار مضاف وأن يكون جمع تابع، أي : تابعين لكم في تكذيب الرسل، فكنتم سبب ضلالنا، وقد جرت عادة الأكابر بالدفع عن أتباعهم المساعدين لهم على أباطيلهم ﴿فهل أنتم﴾، أي : في هذا اليوم ﴿مغنون﴾، أي : دافعون ﴿عنا من عذاب الله﴾، أي : من انتقامه ﴿من شيء﴾ فإن قيل : فما الفرق بين من في عذاب الله وبين من في شيء ؟
أجيب : بأنّ الأولى للتبيين، والثانية للتبعيض، كأنه قيل : هل أنتم مغنون عنا بعض الشيء الذي هو من بعض عذاب الله ؟
ويجوز أن يكونا للتبعيض معاً بمعنى هل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو بعض عذاب الله، وعند هذا حكى الله تعالى عن الذين استكبروا أنهم قالوا :﴿لو هدانا الله﴾، أي : الذي له صفات الكمال ﴿لهديناكم﴾، أي : لو أرشدنا الله تعالى لارشدناكم، ودعوناكم إلى الهدى، ولكنه لم يهدنا، فضللنا وكنتم لنا تبعاً فأضللناكم، ولما كان الموجب لقولهم هذا الجزع قالوا :﴿سواء علينا﴾، أي : نحن وأنتم ﴿أجزعنا أم صبرنا﴾، أي : مستو علينا الجزع والصبر، والجزع أبلغ من الحزن ؛ لأنه يصرف الإنسان عما هو بصدده ويقطعه عنه ﴿ما لنا من محيص﴾، أي : منجى ومهرب مما نحن فيه من العقاب.
تنبيه : يحتمل أن يكون هذا من كلام المتبوعين، وأن يكون كلام الفريقين، ويؤيد الثاني ما روي أنهم يقولون في النار : تعالوا نجزع فيجزعون خمسمئة عام فلا ينفعهم الجزع، فيقولون : تعالوا نصبر، فيصبرون خمسمئة عام فلا ينفعهم الصبر، فعند ذلك يقولون ذلك. وقال محمد بن كعب القرظي : بلغني أنّ أهل النار استغاثوا بالخزنة كما قال الله تعالى :﴿وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب﴾ (غافر، ٤٩)
فردّت الخزنة عليهم :﴿أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى﴾ (غافر، ٥٠)
فردّت الخزنة عليهم :﴿ادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال﴾ (غافر، ٥٠)
فلما يئسوا مما عند الخزنة نادوا :﴿يا مالك ليقض علينا ربك﴾ (الزخرف، ٧٧)
سألوا
١٩٩
الموت فلا يجيبهم ثمانين سنة والسنة ثلاثمائة وستون يوماً واليوم ﴿كألف سنة مما تعدون﴾ (الحج، ٤٧)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٩٧
ثم يجيبهم بقوله :﴿إنكم ما كثون﴾. فلما أيسوا مما عنده، قال بعضهم لبعض ذلك. ولما ذكر تعالى المناظرة التي وقعت بين الرؤوساء والأتباع من كفرة الإنس أردفها بالمناظرة التي وقعت بين الشيطان وبين أتباعه بقوله تعالى :
﴿وقال الشيطان﴾ الذي هو أوّل المتبوعين في الضلال ورأس المضلين والمستكبرين ﴿لما قضي الأمر﴾، أي : أحكم وفرغ منه، وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار أخذ أهل النار في لوم إبليس وتقريعه وتوبيخه، فيقوم فيهم خطيباً. قال مقاتل : يوضع له منبر من نار، فيجتمع أهل النار إليه يلومونه، فيقول لهم ما أخبر الله تعالى بقوله :﴿إنّ الله وعدكم وعد الحق﴾، أي : بالبعث والجزاء على الأعمال فصدقكم ﴿ووعدتكم﴾ أن لا جنة ولا نار ولا حشر ولا حساب ﴿فأخلفتكم﴾، أي : الوعد، فلم أقل شيئاً إلا كان زيفاً، فاتبعتموني مع كوني عدوّكم، وتركتم ربكم وهو وليكم.
تنبيه : في الآية إضمار من وجهين : الأوّل : أنّ التقدير : إنّ الله وعدكم الحق فصدقكم كما تقدّم تقريره، ووعدتكم فأخلفتكم، وحذف ذلك لدلالة تلك الحالة على صدق ذلك الوعد لأنهم كانوا يشاهدونها، وليس وراء العيان بيان ؛ ولأنه ذكر في وعد الشيطان الإخلاف، فدل ذلك على الصدق في وعد الله تعالى.
الثاني : أنّ قوله :﴿ووعدتكم فأخلفتكم﴾ الوعد يقتضي مفعولاً ثانياً، وحذف هذا للعلم به، والتقدير : ووعدتكم أن لا جنة ولا نار، ولا حشر ولا حساب كما تقرّر، ولما بين غروره بين سهولة اغترارهم زيادة في تنديمهم فقال :﴿وما كان لي عليكم من سلطان﴾، أي : سلطان، فمن مزيدة، أي : قوّة وقدرة أقهركم على الكفر والمعاصي، وألجئكم على متابعتي وقوله :﴿إلا أن دعوتكم﴾ استثناء منقطع، قال النحويون : لأنّ الدعاء ليس من جنس السلطان، فمعناه : لكن دعوتكم ﴿فاستجبتم لي﴾ محكمين الشهوات ؛ لأنّ النفس تدعو إلى هذه الأحوال الدنيوية، ولا يتصور كيفية السعادات الأخروية والكمالات النفسانية والله يدعو إليها يرغب فيها كما قال :﴿والآخرة خير وأبقى﴾.