جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٩٧
﴿ألم تر﴾، أي : تنظر، والخطاب يحتمل أن يكون للنبيّ ﷺ ويدخل معه غيره، وأن يكون لكل فرد من الناس، أي : ألم تر أيها الإنسان ﴿كيف ضرب الله﴾، أي : المحيط بكل شيء علماً وقدرة ﴿مثلاً﴾ سيره بحيث يعم نفعه، والمثل قول سائر يشبه فيه حال الثاني بالأوّل، ثم بينه بقوله تعالى :﴿كلمة طيبة﴾ قال ابن عباس وأكثر المفسرين : هي لا إله إلا الله. ﴿كشجرة طيبة﴾ قال ابن مسعود وأنس : هي النخلة. وعن ابن عباس : هي شجرة في الجنة. وعن ابن عمر أنّ رسول الله ﷺ قال ذات يوم :"إنّ الله تعالى ضرب مثل المؤمن شجرة فأخبروني ما هي ؟
قال عبد الله : فوقع الناس في شجر البوادي وكنت صبياً فوقع في قلبي أنها النخلة، فهبت رسول الله ﷺ أن أقولها وأنا صغير القوم". وروي : فمنعني مكان عمر فاستحييت فقال له عمر : يا بنيّ لو كنت قلتها لكانت أحب إليّ من حمر النعم، ثم قال رسول الله ﷺ "ألا إنها النخلة". قيل : الحكمة في تشبيه الإنسان بالنخلة من بين سائر الأشجار أنّ النخلة أشبه به من حيث إنها إذا قطع رأسها يبست وسائر الأشجار يتشعب من جوانبها بعد قطع رأسها، وأنها تشبه الإنسان بحيث أنها لا تحمل إلا باللقاح ؛ لأنها خلقت من فضلة طينة آدم عليه السلام ولذلك قال ﷺ "أكرموا عمتكم قيل : ومن عمتنا ؟
قال : النخلة". ﴿أصلها ثابت﴾، أي : في الأرض ﴿وفرعها﴾، أي : غصنها ﴿في السماء﴾، أي : في جهة العلو والصعود ولم يرد المظلة كقولك في الجبل : طويل في السماء تريد ارتفاعه وشموخه. ﴿تؤتي﴾، أي : تعطي. ﴿أكلها﴾، أي : ثمرها ﴿كل حين بإذن ربها﴾، أي : بإرادته، والحين في اللغة الوقت يطلق على القليل والكثير، واختلفوا في مقدار هذا، فقال مجاهد : الحين هنا سنة كاملة ؛ لأنّ النخلة تثمر في كل سنة مرّة. وقال قتادة : ستة أشهر يعني من حين طلعها إلى وقت صرامها. وقال الربيع : كل حين يعني كل غدوة وعشية ؛ لأنّ ثمر النخل يؤكل ليلاً ونهاراً وصيفاً وشتاء، فيؤكل منها الجمار والطلع والبلح والخلال والبسر والمنصف والرطب، وبعد ذلك يؤكل التمر اليابس إلى حين الطري الرطب، فأكلها دائم في كل وقت.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٠٢
قال العلماء : ووجه الحكمة في تمثيل كلمة الإخلاص بالشجرة ؛ لأنّ الإيمان ثابت في قلب المؤمن كثبوت أصل هذه الشجرة في الأرض، وعمله يصعد إلى السماء كما قال تعالى :﴿إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه﴾ (فاطر، ١٠)
فكذلك فرع هذه عال في السماء، وتنال بركته وثوابه كل وقت، والمؤمن كلما قال : لا إله إلا الله، صعدت إلى السماء، وجاءه بركتها وخيرها وثوابها ومنفعتها ؛ ولأنّ الشجرة لا تكون شجرة إلا بثلاثة أشياء عرق راسخ وأصل قائم، وفرع عال، كذلك الإيمان لا يتم إلا بثلاثة أشياء تصديق القلب، وقول اللسان، وعمل الأبدان، ثم نبه
٢٠٢
تعالى على عظم هذا المثل ليقبل على تدبره ليعلم المراد منه فيلزم فقال :﴿ويضرب الله﴾، أي : الذي له الإحاطة الكاملة ﴿الأمثال للناس لعلهم يتذكرون﴾، أي : يتعظون، فإنّ في ضرب الأمثال زيادة إفهام، وتذكير وتصوير للمعاني العقلية، فيحصل الفهم التامّ والوصول إلى المطلوب. ولما ذكر مثل حال السعداء أتبعه بمثل حال الأعداء فقال :
﴿ومثل كلمة خبيثة﴾ هي كلمة الكفر ﴿كشجرة خبيثة﴾ هي الحنظل وقيل : الثوم، وقيل : الكشوث بمثلثة في آخره. قال الجوهري : نبت يتعلق بأغصان الشجر من غير أن يضرب بعرق في الأرض قال الشاعر :
*هي الكشوث لا أصل ولا ورق
** ولا نسيم ولا ظل ولا ثمر
وقيل شجرة الشوك ﴿اجتثت﴾، أي : استؤصلت ﴿من فوق الأرض﴾، أي : عروقها قريبة منه ﴿ما لها من قرار﴾، أي : أصل ولا عرق، فكذلك الكفر بالله تعالى ليس له حجة ولا ثبات ولا قوّة. وعن عبادة أنه قيل لبعض العلماء : ما تقول في ﴿كلمة خبيثة﴾ ؟
فقال : ما أعلم لها في الأرض مستقراً ولا في السماء مصعداً إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى يوافى بها يوم القيامة. ولما وصف الله سبحانه وتعالى الكلمة الطيبة في الآية المتقدّمة أخبر بقوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٠٢


الصفحة التالية
Icon