تنبيه : اتفق كل الفرق على أن قوله : أضللن مجاز ؛ لأنها جمادات، والجماد لايفعل شيئاً البتة إلا أنه لما حصل عند عبادتها أضيف إليها كما تقول : فتنتهم الدنيا وغرّتهم، أي : افتتنوا بها واغتروا بسببها ثم قال :﴿فمن تبعني﴾، أي : على التوحيد ﴿فإنه مني﴾، أي : فإنه جار مجرى بعضي لفرط اختصاصه وقربه مني ﴿ومن عصاني﴾، أي : في غير الدين ﴿فإنك غفور رحيم﴾ وهذا صريح في طلب الرحمة والمغفرة لأولئك العصاة، وإذا ثبت حصول هذه الشفاعة في حق إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثبت حصولها في حق محمد ﷺ لأنه مأمور بالإقتداء به كما قال تعالى :﴿واتبع ملة إبراهيم﴾ (النساء، ١٢٥)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٠٦
وقيل : إنّ هذا الدعاء كان قبل أن يعلم إبراهيم أنّ الله لايغفر الشرك، وقيل : إنك قادر أن تغفر له وترحمه بأن تنقله عن الكفر إلى الإسلام، وقيل : المراد من هذه المغفرة أن لا يعاجلهم بالعقاب، فلا يمهلهم حتى يتوبوا، قال الرازي : واعلم أنّ هذه الأوجه ضعيفة، وارتضى ما تقرّر أولاً.
تنبيه : حكى الله سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه السلام في هذا الموضع أنه طلب من الله تعالى سبعة أمور : الأوّل : طلب من الله تعالى نعمة الأمان، وهو (رب اجعل هذا البلد آمناً) المطلوب الثاني : أن يرزقه الله تعالى التوحيد ويصونه عن الشرك وهو قوله :﴿واجنبني وبني أن نعبد الأصنام﴾ المطلوب الثالث قوله :
﴿ربنا إني أسكنت من ذريتي﴾ (إبراهيم، ٣٧)، أي : بعض ذريتي أو ذرّية من ذريتي، فحذف المفعول على هذا القول، وهم إسماعيل ومن ولد منه فإن إسكانه متضمن لإسكانهم ﴿بواد﴾ هو وادي مكة المشرفة لكونه في فضاء منخفض بين جبال تجري فيه السيول ﴿غير ذي زرع﴾، أي : لايكون فيه من الزرع قط، فإنه حجري لا ينبت كقوله تعالى :﴿قرآناً عربياً غير ذي عوج﴾ (الزمر، ٢٨)
بمعنى لا يوجد فيه اعوجاج ﴿عند بيتك المحرم﴾، أي : الذي حرمت التعرض له، والتهاون به، وجعلت ما حوله حرماً لمكانه ؛ أو لأنه لم يزل ممنعاً عزيزاً يهابه كل جبار كالشيء المحرّم الذي حقه أن يجتنب ؛ أو لأنه محترم عظيم الحرمة لا يحل انتهاكه ؛ أو لأنه حرّم على الطوفان، أي : منع منه كما سمي عتيقاً ؛ لأنه أعتق منه فلم يستول عليه، أو لأنه أمر الصائرين إليه أن يحرموا على أنفسهم أشياء كانت تحل لهم من قبل، أو لأنه حرم موضع البيت حين خلق السموات والأرض، وحفه بسبعة أملاك، وهو مثل البيت المعمور الذي بناه آدم فرفع إلى السماء السادسة، وروي أن هاجر كانت أمة لسارة فوهبتها لإبراهيم عليه السلام فولدت منه إسماعيل، فقالت سارة : كنت أريد أن يهب الله لي ولداً من خليله فمنعنيه ورزقه خادمتي، وغارت عليهما، وقالت لإبراهيم : بعدهما مني وناشدته بالله أن يخرجهما من عندها، فنقلهما إلى مكة وإسماعيل رضيع حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء فوضعهما هناك، ووضع عندهما جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفل إبراهيم منطلقاً، فتبعته أم إسماعيل وقالت : يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس
٢٠٨
ولاشيء ؟
فقالت له ذلك مراراً، وهو لا يلتفت إليها فقالت له آلله أمرك بهذا ؟
قال : نعم قالت : إذاً لايضيعنا، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لايرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه وقال :﴿ربنا إني أسكنت من ذريتي﴾ (إبراهيم، ٣٧)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٠٦


الصفحة التالية
Icon