﴿ربنا﴾، أي : أيها المالك لأمورنا المدبر لنا ﴿اغفر لي﴾ فإن قيل : إنّ طلب المغفرة إنما يكون بعد سابقة ذنب أجيب : بأن المقصود من ذلك الالتجاء إلى الله تعالى، وقطع الطمع إلا من فضله وكرمه ورحمته، ثم أشرك معه أقرب الناس إليه وأحقهم بشكره فقال :﴿ولوالديّ﴾ فإن قيل : كيف جاز أن يستغفر لوالديه وكانا كافرين ؟
أجيب بوجوه : الأول : أنّ المنع منه لا يعلم إلا بتوقيف، فلعله لم يجد منه منعاً و ظنّ كونه جائزاً، الثاني : أراد بوالديه آدم وحواء، الثالث : كان ذلك بشرط الإسلام، وقال بعضهم : كانت أمّه مؤمنة ولذلك خص أباه بالذكر في قوله :﴿فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه﴾ (التوبة، ١١٤)
. ثم دعا لمن تبعه في الدين من ذريته وغيرهم بقوله ﴿وللمؤمنين﴾، أي : العريقين في هذا الوصف ﴿يوم يقوم﴾، أي : يبدو ويظهر ﴿الحساب﴾ وقيل : أراد يوم يقوم الناس فيه للحساب، فاكتفى بذكر الحساب لكونه مفهوماً عند السامع، وهذا دعاء للمؤمنين بالمغفرة، والله تعالى لا يردّ دعاء خليله إبراهيم عليه السلام، وفيه بشارة عظيمة للمؤمنين بالمغفرة، فنسأل الله تعالى أن يغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا ولأحبابنا ولمن نظر في هذا التفسير، ودعا لمن كان سبباً فيه بالمغفرة. ولما بيّن تعالى دلائل التوحيد، ثم حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه طلب من الله تعالى أن يصونه عن الشرك، وطلب منه أن يوفقه للأعمال الصالحة، وأن يخصه بالرحمة والمغفرة في يوم القيامة عقبه بقوله تعالى مخاطبة لنبيه صلى الله عليه وسلم
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٠٦
٢١١
﴿ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون﴾ ؛ لأنّ الغفلة معنى يمنع الإنسان عن الوقوف على حقائق الأمور، وقيل : حقيقة الغفلة سهو يعتري الإنسان من قلة التحفظ والتيقظ، وهذا في حق الله تعالى محال، والمقصود من ذلك التنبيه على أنه ينتقم للمظلوم من الظالم، ففيه وعيد وتهديد للظالم، وإعلام له بأنه لا يعامله معاملة الغافل عنه بل ينتقم ولا يتركه مغفلاً عنه، وعن سفيان بن عيينة فيه تسلية للمظلوم وتهديد للظالم، فقيل له : من قال هذا ؟
فغضب، وقال : إنما قاله من علمه.
فإن قيل : كيف يليق به ﷺ أن يحسب الله موصوفاً بالغفلة وهو أعلم الناس به ؟
أجيب : بوجوه : الأوّل : أنّ المراد به التثبت على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله غافلاً كقوله :﴿لا تدع مع الله إلهاً آخر﴾ (القصص، ٨٨)
. والثاني : أنّ المقصود منه بيان أنه لو لم ينتقم لكان عدم الانتقام لأجل غفلته عن ذلك الظلم. والثالث : أنّ المراد ولا تحسبنه معاملهم معاملة الغافل عما يعملون، ولكن معاملة الرقيب عليهم المحاسب على النقير والقطمير. والرابع : أن يكون هذا الكلام وإن كان خطاباً مع النبيّ ﷺ في الظاهر إلا أنه يكون في الحقيقة خطاباً مع الأمّة. ثم بيّن تعالى أنه ﴿إنما يؤخرهم﴾، أي : عذابهم ﴿ليوم﴾ موصوف بخمس صفات الصفة الأولى : قوله تعالى :﴿تشخص فيه الأبصار﴾، أي : أبصارهم لا تقرّ مكانها من هول ما ترى في ذلك اليوم. الصفة الثانية : قوله تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢١١
مهطعين﴾
، أي : مسرعين إلى الداعي أو مقبلين بأبصارهم لا يطرقون هيبة وخوفاً. وقيل : المهطع الخاضع الذليل الساكن. الصفة الثالثة : قوله تعالى :﴿مقنعي رؤوسهم﴾، أي : رافعيها إذ الإقناع : رفع الرأس إلى فوق، فأهل الموقف من صفتهم أنهم رافعو رؤوسهم إلى السماء، وهذا بخلاف المعتاد ؛ لأنّ من يتوقع البلاء يطرق بصره إلى الأرض. وقال الحسن : وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد. الصفة الرابعة : قوله تعالى :﴿لا يرتدّ إليهم طرفهم﴾، أي : بل تثبت عيونهم شاخصة لا يطرفون بعيونهم، ولكن عيونهم مفتوحة ممدودة من غير تحريك للأجفان قد شغلهم ما بين أيديهم. الصفة الخامسة : قوله تعالى :﴿وأفئدتهم﴾، أي : قلوبهم ﴿هؤاء﴾، أي : خالية من العقل لفرط الحيرة والدهشة. وقال قتادة : خرجت قلوبهم عن صدورهم، فصارت في حناجرهم، فلا تخرج من أفواههم ولا تعود إلى أماكنها.
تنبيه : اختلفوا في وقت حصول هذه الصفات، فقيل : إنها عند المحاسبة بدليل أنه تعالى إنما ذكر هذه الصفات عقب وصف ذلك بأنه يقوم الحساب، وقيل : إنها تحصل عندما يتميز فريق عن فريق، فالسعداء يذهبون إلى الجنة والأشقياء إلى النار. وقيل : يحصل عند إجابة الداعي والقيام من
٢١٢
القبور. قال الرازي : والأوّل أولى.


الصفحة التالية
Icon