ثم قال : رسله ليدل به على أنه تعالى لما لم يخلف وعده أحداً، وليس من شأنه إخلاف المواعيد، فكيف يخلف رسله الذين هم خيرته وصفوته ؟
﴿إنّ الله﴾، أي : ذو الجلال والإكرام ﴿عزيز﴾، أي : غالب يقدر ولا يقدر عليه ﴿ذو انتقام﴾، أي : ممن عصاه وقوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢١١
بدل من يوم يأتيهم، أو ظرف للانتقام، والمعنى : يوم تبدل هذه الأرض التي تعرفونها أرضاً أخرى غير هذه المعروفة، وقوله تعالى :﴿والسموات﴾ عطف على الأرض وتقديره والسموات غير السموات، والتبديل التغيير، وقد يكون في الذوات كقولك بدلت الدراهم دنانير، ومنه ﴿بدلناهم جلوداً غيرها﴾ (النساء، ٥٦)
﴿وبدلناهم بجنتيهم جنتين﴾ (سبأ، ١٦)
. وفي الأوصاف كقولك : بدلت الحلقة خاتماً، إذا أذبتها وسويتها خاتماً فنقلتها من شكل إلى شكل آخر، ومنه قوله تعالى :﴿فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات﴾ (الفرقان، ٧٠)
والآية محتملة لكل واحد من هذين المفهومين، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : هي تلك الأرض، وإنما تغير أوصافها، وأنشد :
*وما الناس بالناس الذين عهدتهم ** ولا الدار بالدار التي كنت تعلم*
فتتبدّل أوصافها فتسير عن الأرض جبالها، وتفجر بحارها، وتستوي فلا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، وتبدل السماء بانتثار كواكبها، وكسوف شمسها، وخسوف قمرها، وانشقاقها وكونها أبواباً، ويدلّ لذلك قوله ﷺ "يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقاء ليس فيها علم لأحد" أخرجاه في الصحيحين، العفراء بالعين المهملة، وهي البيضاء إلى حمرة، ولهذا شبهها بقرصة النقاء، وهو الجير الأبيض الجيد الفائق المائل إلى الحمرة. كأن النار ميلت بياض وجهه
٢١٤
إلى الحمرة، وقوله : ليس فيها علم لأحد يعني : ليس فيها علامة لأحد لتبديل هيئتها وصفتها وزوال جبالها وجميع بنائها، فلا يبقى فيها أثر يستدلّ به. وعن ابن مسعود أنه قال : تبدل الأرض بأرض كالفضة البيضاء نقية لم يسفك فيها دم، ولم تعمل عليها خطيئة. وقال عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه : الأرض من فضة والسماء من ذهب. وقال محمد بن كعب وسعيد بن جبير : تبدل الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه. وعن الضحاك أيضاً : من فضة كالصحائف. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : سألت رسول الله ﷺ عن هذه الآية فأين يكون الناس يومئذٍ يا رسول الله ؟
فقال :"على الصراط". أخرجه مسلم. وروى ثوبان أنّ حبراً من اليهود سأل رسول الله ﷺ أين تكون الناس يوم تبدّل الأرض غير الأرض ؟
قال :"هم في الظلمة دون الجسر". قال الرازي : واعلم أنه لا يبعد أن يقال : المراد من تبديل الأرض والسموات هو أنه تعالى يجعل الأرض جهنم والسموات الجنة، والدليل عليه قوله تعالى :﴿كلا إنّ كتاب الأبرار لفي عليين﴾ (المصطففين، ١٨)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢١٤
وقوله تعالى :﴿كلا إنّ كتاب الفجار لفي سجين﴾ (المصطففين، ٧)
. ﴿وبرزوا﴾، أي : خرجوا من قبورهم ﴿لله﴾، أي : لحكمه والوقوف بين يديه تعالى للحساب ﴿الواحد﴾، أي : الذي لا شريك له ﴿القهار﴾، أي : الذي لا يدافعه شيء عن مراده كما قال تعالى :﴿لمن الملك اليوم لله الواحد القهار﴾ (غافر، ١٦)
. ولما وصف نفسه سبحانه وتعالى بكونه قهاراً بين عجزهم وذلتهم بقوله تعالى :
﴿وترى﴾ يا محمد، أي : تبصر ﴿المجرمين﴾، أي : الكافرين ﴿يومئذٍ﴾، أي : يوم القيامة، ثم ذكر تعالى من صفات عجزهم وذلتهم أموراً : الصفة الأولى : قوله تعالى :﴿مقرّنين﴾، أي : مشدودين ﴿في الأصفاد﴾ جمع صفد وهو القيد. قال الكلبي : كل كافر مع شيطان في غل. وقال عطاء : وهو معنى قوله تعالى :﴿وإذا النفوس زوجت﴾ (التكوير، ٧)، أي : قرنت فتقرن نفوس المؤمنين الحور العين، ونفوس الكافرين بقرنائهم من الشياطين، وقيل : هو قرن بعض، الكفار ببعض فتضم تلك النفوس الشقية والأرواح الكدرة الظلمانية بعضها إلى بعض لكونها متشاكلة متجانسة، وتنادى ظلمة كل واحدة منها إلى الأخرى. وقال ابن زيد : قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال.
الصفة الثانية : قوله تعالى :﴿سرابيلهم﴾، أي : قمصهم جمع سربال وهو القميص ﴿من قطران﴾ وهو شيء يتحالب من شجر يسمى الأبهل، فيطبخ وتطلى به الإبل الجربى، فيحرق الجرب بحرارته وحدته، وقد تصل حرارته إلى داخل الجوف، ومن شأنه أنه يتسارع فيه اشتعال النار، وهو أسود اللون منتن الريح، فتطلى به جلود أهل النار حتى يصير ذلك الطلاء كالسرابيل، فيحصل بسببها أربعة أنواع من العذاب : لذع القطران، وحرقته، وإسراع النار في جلودهم، واللون الوحش، ونتن الريح، وأيضاً التفاوت بين قطران القيامة وقطران الدنيا كالتفاوت بين النارين.
الصفة الثالثة قوله تعالى :﴿وتغشى﴾، أي : تعلو ﴿وجوههم النار﴾ ونظيره قوله تعالى :﴿أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب﴾ (الزمر، ٢٤)
. وقوله تعالى :﴿يوم يسحبون في النار على وجوههم﴾ (القمر، ٤٨)
٢١٥


الصفحة التالية
Icon