﴿فسجد الملائكة﴾ وقوله تعالى :﴿كلهم أجمعون﴾ قال سيبويه : تأكيد بعد تأكيد. وسئل المبرد عن ذلك فقال : لو قال ﴿فسجد الملائكة﴾ احتمل أن يكون سجد بعضهم فلما قال :﴿كلهم﴾ زال هذا الاحتمال فظهر أنهم بأسرهم سجدوا ثم عند هذا بقي احتمال وهو أنهم سجدوا دفعة واحدة أو سجد كل واحد في وقت آخر، فلما قال :﴿أجمعون﴾ ظهر أنّ الكل سجدوا دفعة واحدة. قال الزجاج : وقول سيبويه أجود لأنّ أجمعين معرفة فلا يكون حالاً وقوله تعالى :
﴿إلا إبليس﴾ أجمعوا على أنّ إبليس كان مأموراً بالسجود لآدم واختلفوا في أنه هل كان من الملائكة أم لا وقد سبقت هذه المسألة على الاستقصاء في سورة البقرة وقوله تعالى :﴿أبى أن يكون مع الساجدين﴾ أي : لآدم استئناف تقديره إنّ قائلاً قال : هل سجد فقيل أبى ذلك واستكبر عنه.
﴿قال﴾ الله تعالى له :﴿يا إبليس ما لك ألا تكون﴾ أي : أن تكون ولا مزيدة، أي : ما منعك أن تكون ﴿مع الساجدين﴾ لآدم ﴿قال لم أكن لأسجد لبشر﴾ جسماني كثيف واللام لتأكيد النفي، أي : لا يصح مني وينافي حالي أن أسجد وأنا ملك روحاني لبشر. ﴿خلقته من صلصال من حمأ
٢٢٦
مسنون﴾ وهو أخس العناصر ﴿وخلقتني من نار﴾ وهي أشرفها استنقص آدم باعتبار النوع والأصل وقد سبق الجواب عنه في سورة الأعراف. تنبيه : قال بعض المتكلمين : إنه تعالى أوصل هذا الخطاب إلى إبليس على لسان بعض رسله وضعف لأنّ إبليس قال في الله لجواب :﴿لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال﴾ فقوله : خلقته خطاب الحضور لا خطاب الغيبة وظاهره يقتضي أن الله تعالى تكلم مع إبليس بغير واسطة وأنّ إبليس تكلم مع الله بغير واسطة فكيف يعقل هذا مع أن مكالمة الله تعالى من غير واسطة من أعظم المناصب وأشرف المراتب فكيف يعقل حصوله لرأس الكفرة ورئيسهم ؟
وأجيب : بأنّ مكالمة الله تعالى إنما تكون منصباً عالياً إذا كانت على سبيل الإكرام والإعظام فأمّا إذا كانت على سبيل الإهانة والإذلال فلا.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٢٤
﴿قال﴾ الله تعالى له ﴿فاخرج منها﴾ أي : من الجنة وقيل : من السموات وقيل : من زمرة الملائكة وقد تقدّم الكلام على ذلك أيضاً في سورة الأعراف. ﴿فإنك رجيم﴾ أي : مطرود من الخير والكرامة فإن من يطرد يرجم بالحجر أو شيطان رجيم بالشهب وهو وعيد يتضمن الجواب عن شبهته.
﴿وإن عليك اللعنة﴾ أي : هذا الطرد والإبعاد ﴿إلى يوم الدين﴾ قال ابن عباس : يريد يوم الجزاء حيث يجازى العباد بأعمالهم مثل قوله تعالى :﴿مالك يوم الدين﴾ (الفاتحة، ٣)
. فإن قيل : كلمة إلى تفيد حصر انتهاء الغاية فهذا يفيد أنّ اللعنة لا تحصل إلا إلى يوم الدين وعند القيامة يزول اللعن ؟
أجيب : بجوابين الأوّل : أنّ المراد التأبيد وذكر القيامة أبعد غاية ذكرها الناس في كلامهم كقوله تعالى :﴿ما دامت السموات والأرض﴾ (هود، ١٠٧)
في التأبيد والثاني : أنه مذموم مدعو عليه باللعن في السموات والأرض إلى يوم القيامة من غير أن يعذب فإذا جاء اليوم عذب عذاباً يقترن اللعن معه فيصير اللعن حينئذٍ كالزائل بسبب أنّ شدّة العذاب تذهل عنه. ولما جعله رجيماً ملعوناً إلى يوم القيامة فكأنَّ قائلاً يقول فماذا قال ؟
فقيل :
﴿قال رب﴾ فاعترف بالعبودية والإحسان إليه ﴿فأنظرني﴾ أي : أخرني والإنظار تأخير المحتاج للنظر في أمره والفاء متعلقة بمحذوف دلّ عليه ﴿فاخرج منها فإنك رجيم﴾. ﴿إلى يوم يبعثون﴾ أي : الناس أراد أن يجد فسحة في الإغواء ونجاة من الموت إذ لا موت بعد وقت البعث. ﴿قال﴾ الله تعالى مجيباً للأوّل دون الثاني بقوله تعالى :﴿فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم﴾ وهو المسمى فيه أجلك عند الله وهو النفخة الأولى وما يتبعها من موت كل مخلوق لم يكن في دار الخلد. فإن قيل : كيف أجابه الله تعالى إلى ذلك الإمهال ؟
أجيب : بأنه إنما أجابه إلى ذلك زيادة في بلائه وشقائه وعذابه لا لإكرامه ورفع مرتبته. ولما أجيب لذلك كأنه قيل فماذا قال فقيل :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٢٧
قال رب﴾ أي : أيها الموجد والمدبر لي وقوله :﴿بما أغويتني﴾ أي : خيبتني من رحمتك الباء فيه للقسم وما مصدرية وجواب القسم ﴿لأزينن﴾ أي : أقسم بإغوائك إياي لأزينن ﴿لهم في الأرض﴾ حب الدنيا ومعاصيك كقوله :﴿فبعزتك لأغوينهم أجمعين﴾ (ص، ٨٢)
إلا أنه في ذلك الموضع أقسم بعزة الله وهي من صفات الذات وهنا أقسم بإغواء الله، وهي من صفات الأفعال، والفقهاء قالوا : القسم بصفات الذات صحيح، واختلفوا في القسم بصفات الأفعال والراجح فيها الصحة. ﴿ولأغوينهم﴾ أي : بالإضلال عن
٢٢٧
الطريق الحميدة بإلقاء الوسوسة في قلوبهم ولأحملنهم. ﴿أجمعين﴾ على الغواية وقوله :