وهو أي : لا غيره. وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء والباقون بضمها ﴿الذي سخر البحر﴾ أي : ذلله وهيأه لعيش ما فيه من الحيوان وتكوّن الجواهر وغير ذلك قال علماء الهيئة : ثلاثة أرباع كرة الأرض غائصة في الماء فذاك هو البحر المحيط وجعل في هذا الربع المسكون سبعة أبحر قال تعالى :﴿والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحر﴾ (لقمان، ٢٧)
والبحر الذي سخره الله تعالى للناس هو هذه البحار فمن تسخيرها للخلق ما مر ومنه جعلها بحيث يتمكن الناس من الانتفاع بها بالركوب وبالغوص وبغير ذلك فمنافع البحار كثيرة وذكر سبحانه وتعالى منها هنا ثلاثة منافع الأولى قوله تعالى :﴿لتأكلوا منه﴾ أي : بالاصطياد وغيره من لحوم الأسماك. ﴿لحماً طرياً﴾ لا تجد أنعم منه ولا ألين وهو أرطب اللحوم فيسرع إليه الفساد فيبادر إلى أكله عذباً ففي ذلك دلالة على كمال قدرته تعالى وذلك أن السمك لو كان كله مالحاً لما عرف به من قدرة الله تعالى ما يعرف بالطري لأنه لما خرج من البحر الملح اللحم الطري في غاية العذوبة علم أنه يخلق الله وقدرته لا بحسب الطبع وعلم بذلك أنّ الله تعالى قادر على إخراج الضدّ من الضدّ. المنفعة الثانية : قوله تعالى :﴿وتستخرجوا منه﴾ أي : بجهدكم في الغوص وما يتبعه ﴿حلية﴾ أي : اللؤلؤ والمرجان، كما قال تعالى :﴿يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان﴾ (الرحمن، ٢٢)
. ﴿تلبسونها﴾ أي : نساؤكم وهنّ بعضكم فكأن اللابس أنتم ولأنّ زينة النساء بالحلي إنما هو لأجل الرجال فكان ذلك زينة لهم. المنفعة الثالثة : قوله تعالى :﴿وترى الفلك﴾ أي : السفن ﴿مواخر﴾ أي : تمخر الماء، أي : تشقه بجريها ﴿فيه﴾ أي : مقبلة ومدبرة وذلك أنك ترى سفينتين إحداهما تقبل والأخرى تدبر بريح واحدة. وقال مجاهد : تمخر الريح السفن يعني أنها إذا جرت يسمع لها صوت. وقال الحسن : مواخر يعني مملوءة متاعاً. وقوله تعالى :﴿ولتبتغوا﴾ أي : لتطلبوا عطف على تأكلوا وما بينهما إعتراض. وقيل : عطف على محذوف تقديره : لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا ﴿من فضله﴾ أي : من سعة رزقه بركوبها للتجارة وللوصول إلى البلدن الشاسعة ﴿ولعلكم تشكرون﴾ الله على هذه النعم التي أنتم عاجزون عنها لولا تسخيره.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٤٩
ثم إنه تعالى ذكر بعض النعم التي خلقها الله تعالى في الأرض بقوله تعالى :﴿وألقى في الأرض رواسي﴾ أي : جبالاً ثوابت ﴿أن تميد﴾ أي : كراهة أن تميل وتضطرب ﴿بكم﴾ وقيل : لئلا تميل بكم والأوّل قدره البصريون والثاني قدّره الكوفيون، وقد تقدّم مثل ذلك في قوله تعالى :﴿يبين الله لكم أن تضلوا﴾ (النساء، ١٧٦)
. روي أن الله تعالى خلق الأرض فجعلت تمور فقالت
٢٤٩
الملائكة : ما هي بمقرّ أحد على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال لم تدر الملائكة مم خلقت وقوله تعالى :﴿وأنهاراً﴾ عطف على رواسي لأنّ الإلقاء بمعنى الخلق والجعل. ألا ترى أنه تعالى قال في آية أخرى :﴿وجعل فيها رواسي من فوقها﴾ (فصلت، ١٠)
. وقال تعالى :﴿وألقيت عليك محبة مني﴾ (طه، ٣٩)
. وذكر تعالى الأنهار بعد الجبال لأن معظم عيون الأنهار وأصولها تكون من الجبال. ﴿و﴾ جعل لكم فيها ﴿سبلاً﴾ أي : طرقاً مختلفة تسلكون فيها في أسفاركم والتردّد في حوائجكم من بلد إلى بلد ومن مكان إلى مكان ﴿لعلكم تهتدون﴾ أي : بتلك السبل إلى مقاصدكم وإلى معرفة الله تعالى فلا تضلون.
﴿و﴾ جعل لكم فيها ﴿علامات﴾ أي : من الجبال وغيرها جمع علامة تهتدون بها في أسفاركم. ولما كانت الدلالة بالنجم أنفع الدلالات وأوضحها براً وبحراً ليلاً ونهاراً نبه على عظمها بالالتفات إلى مقام الغيبة لإفهام العموم لئلا يظنّ أن المخاطب مخصوص والأمر لا يتعدّاه فقال تعالى :﴿وبالنجم﴾ أي : الجنس ﴿هم﴾ أي : أهل الأرض كلهم وأولى الناس بذلك المخاطبون وهم قريش ثم العرب كلها لفرط معرفتهم بالنجوم. ﴿يهتدون﴾ وقدّم الجارّ تنبيهاً على أن الدلالة بغيره بالنسبة إليه سافلة، وقيل : المراد بالنجم الثريا والفرقدان وبنات نعش والجدي. وقيل : الضمير لقريش لأنهم كانوا كثيري الأسفار للتجارة مشهورين بالاهتداء في مسايرهم بالنجوم. ولما ذكر سبحانه وتعالى من عجائب قدرته وبديع خلقه ما ذكر على الترتيب الأحسن والنظم الأكمل وكانت هذه الأشياء المخلوقة المذكورة في الآيات المتقدّمة كلها دالة على كمال قدرة الله ووحدانيته، وأنه تعالى المنفرد بخلقها جميعها قال على سبيل الإنكار على من ترك عبادته واشتغل بعبادة هذه الأصنام العاجزة التي لا تضرّ ولا تنفع ولا تقدر على شيء.


الصفحة التالية
Icon