﴿أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء﴾ أي : من الأجرام التي لها ظل كشجر وجبل ﴿تتفيؤ﴾ أي : تتميل ﴿ظلاله عن اليمين والشمائل﴾ جمع شمال، أي : عن جانبي كل واحد منهما وشقيه. وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على الخطاب على نسق ما قبله والباقون بالياء على الغيبة إلى ما خلق استعارة من يمين الإنسان وشماله لجانبي الشيء، أي : ترجع الظلال من جانب إلى جانب منقادة لله غير ممتنعة عليه فيما سخرها له. وقال قتادة والضحاك : أمّا اليمين فأوّل النهار وأمّا الشمائل فآخره لأنّ الشمس وقت طلوعها إلى وقت انتهائها إلى وسط الفلك تقع الظلال إلى الجانب الغربي فإذا انحدرت الشمس من وسط الفلك إلى الجانب الغربي وقعت الظلال في الجانب الشرقي والظلال في أوّل النهار تبتدئ من يمين الفلك على الربع الغربي من الأرض ومن وقت انحدار الشمس من وسط الفلك تبتدئ من شمال الفلك واقعة على الربع الشرقي من الأرض. فإن قيل : ما السبب في ذكر اليمين بلفظ الواحد والشمائل بصيغة الجمع ؟
أجيب : بأشياء الأوّل : أنه وحّد اليمين والمراد الجمع ولكنه اقتصر على الواحد كقوله تعالى :﴿ويولون الدبر﴾ (القمر، ٤٥)
الثاني : قال الفرّاء : كأنه إذا وحد ذهب إلى واحد من ذوات الظلال وإذا جمع ذهب إلى كلها وذلك لأنّ قوله :﴿إلى ما خلق الله من شيء﴾ لفظه واحد ومعناه الجمع على ما مرّ فيحتمل كلا الأمرين. الثالث : أنّ العرب إذا ذكرت صيغتي جمع عبرت عن أحدهما بلفظ الواحد كقوله تعالى :﴿وجعل الظلمات والنور﴾ (الأنعام، ١)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٦٢
وقوله تعالى :﴿ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم﴾ (البقرة، ٧)
. تنبيه : الهمزة للاستفهام وهو استفهام إنكار، أي : قد رأوا أمثال هذه الصنائع فما بالهم لم يتفكروا فيه ليظهر لهم كمال قدرته وقهره فيخافوا منه وما موصولة مبهمة بمعنى الذي ومن شيء بيان لها. فإن قيل : كيف بين الموصول وهو مبهم بشيء وهو مبهم بل أبهم مما قبله ؟
أجيب : بأن شيئاً قد اتضح وظهر بوصفه بالجملة بعده وهو تتفيؤ ظلاله وقيل : الجملة بيان لما. وقوله تعالى :﴿سجداً لله﴾ حال من الظلال جمع ساجد كشاهد وشهد، وراكع وركع. واختلف في المراد من السجود على قولين أحدهما : أنّ المراد منه الاستسلام والانقياد يقال : سجد البعير إذا طأطأ رأسه ليركب وسجدت النخلة إذا مالت لكثرة الحمل ويقال : اسجد للقرد في زمانه، أي : اخضع له وقال الشاعر :
* ترى الأكم فيها سجداً للحوافر
٢٦٣
أي متواضعة. والثاني : أنّ هذه الظلال واقعة على الأرض ملتصقة بها على هيئة الساجد فلما كانت الظلال يشبه شكلها شكل الساجدين أطلق الله تعالى عليها هذا اللفظ وكان الحسن يقول : أما ظلك فيسجد لربك وأمّا أنت فلا تسجد لربك بئسما صنعت. وعن مجاهد ظل الكافر يصلي وهو لا يصلي. وقيل : ظل كل شيء يسجد لله سواء أكان ذلك الشيء ساجداً أم لا. قال الرازي : والأوّل أقرب إلى الحقائق العقلية والثاني أقرب إلى الشبهات الظاهرة. وقوله تعالى :﴿وهم داخرون﴾ أي : صاغرون حال أيضاً من الظلال فينتصب عنه حالان وقيل : حال من الضمير المستتر في سجداً فهي حال متداخلة. فإن قيل : الظلال ليست من العقلاء فكيف جاز جمعها بالواو والنون ؟
أجيب : أنه تعالى لما وصفها بالطاعة والدخور أشبهت العقلاء أو أن في جملة ذلك من يعقل فغلب. ولما حكم على الظلال بما يعم أصحابها من جماد وحيوان وكان الحيوان أشرف من الجماد رقي الحكم إليه بخصوصه، فقال :
﴿ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض﴾ وقوله تعالى :﴿من دابة﴾ يجوز أن يكون بياناً لما في السموات وما في الأرض جميعاً على أنّ في السموات خلقاً لله يدبون فيها كما تدب الأناسيّ في الأرض، وأن يكون بياناً لما في الأرض وحده، ويراد بما في السموات الخلق الذي يقال له الروح، وأن يكون بياناً لما في الأرض ويراد بما في السموات الملائكة وكرّر ذكرهم بقوله تعالى :﴿والملائكة﴾ خصوصاً من بين الساجدين لأنهم أطوع الخلق وأعبدهم ويجوز أن يراد بما في السموات ملائكتهنّ وبقوله تعالى :﴿والملائكة﴾ ملائكة الأرض من الحفظة وغيرهم. فإن قيل : سجود المكلفين مما انتظمه هذا الكلام خلاف سجود غيرهم فكيف عبر عن النوعين بلفظ واحد ؟
أجيب : بأنّ المراد بسجود المكلفين طاعتهم وعبادتهم وبسجود غيرهم انقياده لإرادة الله تعالى وأنه غير ممتنع عليه وكلا السجودين يجمعهما معنى الانقياد فلم يختلفا فلذلك جاز أن يعبر عنهما بلفظ واحد. فإن قيل : هلا جيء بمن دون ما تغليباً للعقلاء من الدواب على غيرهم ؟
أجيب : بأنه لو جيء بمن لم يكن فيه دليل على التغليب فكان متناولاً للعقلاء خاصة فجيء بما هو صالح للعقلاء وغيرهم إرادة للعموم. ﴿وهم﴾ أي : الملائكة ﴿لا يستكبرون﴾ عن عبادته ثم علل تخصيصهم بقوله تعالى دلالة على أنهم كغيرهم في الوقوف بين الخوف والرجاء.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٦٢