. وقال قتادة : قد فعل الله تعالى ذلك في زمن نوح عليه السلام فأهلك جميع الدواب التي على وجه الأرض إلا من كان في السفينة مع نوح عليه السلام. روي أنّ أبا هريرة رضي الله تعالى عنه سمع رجلاً يقول : إنّ الظالم لا يضر إلا نفسه. فقال : بئسما قلت إنّ الحبارى تموت هزالاً من ظلم الظالم. وقال ابن مسعود : إنّ الجعل تعذب في حجرها بذنب ابن آدم، والجعل بضم الجيم وفتح العين دويبة قاله الجوهريّ. وقيل في معنى الآية : ولو يؤاخذ الله الآباء الظالمين بسبب ظلمهم لانقطع النسل، ولم توجد الأبناء ولم يبق في الأرض أحد. ﴿ولكن يؤخرهم﴾ أي : يمهلهم بفضله وكرمه وحلمه ﴿إلى أجل مسمى﴾ أي : إلى انتهاء آجالهم وانقضاء أعمارهم، ﴿فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة﴾ عنه ﴿ولا يستقدمون﴾ أي : لا يؤخرون ساعة من الأجل الذي جعله الله تعالى لهم ولا ينتقصون منه. تنبيه : ههنا همزتان مفتوحتان من كلمتين فقرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط إحدى الهمزتين مع المدّ والقصر. وقرأ ورش وقنبل بتسهيل الثانية وإبدالها حرف مدّ والباقون بتحقيق الهمزتين.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٦٩
والنوع الثالث من الأقاويل الفاسدة التي كان يذكرها الكفار وحكاها الله تعالى عنهم قوله :﴿ويجعلون لله ما يكرهون﴾ لأنفسهم من البنات وأراذل الأحوال والشركاء في الرياسة. ثم وصف الله تعالى جراءتهم مع ذلك بقوله تعالى :﴿وتصف﴾ أي : وتقول ﴿ألسنتهم الكذب﴾ أي : مع ذلك
٢٦٩
مع أنه قول لا ينبغي أن يتخيله عاقل، ثم بيّنه بقوله تعالى :﴿أنّ لهم الحسنى﴾ أي : عنده، أي : الجنة كقوله تعالى :﴿ولئن رجعت إلى ربي إنّ لي عنده للحسنى﴾ ولا جهل أعظم ولا أحكم سوءاً من أن تقطع بأنّ من تجعل له ما تكره أن يجعل لك ما تحب فكأنه قيل ما لهم عنده ؟
فقيل :﴿لا جرم﴾أي لا ظن ولا تردّد في ﴿أن لهم النار﴾ أي : هي جزاء الظالمين وقيل لا جرم بمعنى حقاً. ﴿وأنهم مفرطون﴾ أي : متركون فيها أو مقدّمون إليها وقرأ نافع بكسر الراء، أي : متجاوزون الحد والباقون بالفتح. فإن قيل : إنهم لم يقرّوا بالبعث فكيف يقولون إن لنا الحسنى عند الله ؟
أجيب : بأنهم قالوا إن كان محمد صادقاً في البعث بعد الموت فإن لنا الجنة، وقيل إنه كان في العرب جمع يقرّون بالبعث والقيامة وأنهم كانوا يربطون البعير النفيس على قبر الميت ويتركونه إلى أن يموت ويقولون إنّ ذلك الميت إذا حشر فإنه يحشر معه مركوبه، ثم بين تعالى أنّ مثل هذا الصنيع الذي يصدر من مشركي قريش قد صدر من سائر الأمم السابقين في حق الأنبياء المتقدّمين بقوله تعالى :
﴿تالله﴾ أي : الملك الأعلى ﴿لقد أرسلنا﴾ أي : بما لنا من القدرة رسلاً من الماضين ﴿إلى أمم من قبلك﴾ كما أرسلنا إلى هؤلاء ﴿فزين لهم الشيطان﴾ أي : المحترق بالغضب المطرود باللعنة ﴿أعمالهم﴾ الخبيثة من الكفر والتكذيب كما زين لهؤلاء فضلوا كما ضلوا فأهلكناهم، وهذا يجري مجرى التسلية للنبيّ ﷺ فيما كان يناله من الغم بسبب جهالات القوم والمزين في الحقيقة هو الله تعالى هذا مذهب أهل السنة وإنما جعل الشيطان آلة بالإلقاء للوسوسة في قلوبهم وليس له قدرة على أن يضلّ أحداً أو يهدي أحداً وإنما له الوسوسة فقط فمن أراد الله تعالى شقاوته سلطه الله عليه حتى يقبل وسوسته ﴿فهو وليهم اليوم﴾ أي : في الدنيا وإنما عبر باليوم عن زمانها، أي : فهو وليهم حين كان يزين لهم أو يوم القيامة على أنه حكاية حال ماضية أو آتية، أي : لا ولي لهم غيره وهو عاجز عن نصر نفسه فكيف ينصرهم. وقيل : الضمير لقريش، أي : زين الشيطان للكفرة المتقدّمين أعمالهم وهو وليّ هؤلاء القوم يغرّهم ويغريهم، وقيل : يجوز أن يقدّر مضاف، أي : فهو ولي أمثالهم والوليّ القرين والناصر فيكون نعتاً للناصر لهم على أبلغ الوجوه ﴿ولهم عذاب أليم﴾ أي : مؤلم في الآخرة. ثم ذكر تعالى أنه مع هذا الوعيد الشديد قد أقام الحجة وأزاح العلة بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٦٩
وما أنزلنا﴾ أي : بما لنا من العظمة من جهة العلوّ. ﴿عليك﴾ يا أشرف المرسلين ﴿الكتاب﴾ أي : القرآن ﴿إلا لتبين لهم﴾ أي : للناس ﴿الذي اختلفوا فيه﴾ من أمر الدين مثل التوحيد والشرك وإثبات المعاد ونفيه فإنه كان فيهم من ينكر البعث ومنهم من يؤمن به ومنهم عبد المطلب ومثل تحريم الحلال كالبحيرة والسائبة وتحليلهم أشياء محرّمة كالميتة. فإن قيل : اللام في لتبين لهم تدل على أنّ أفعال الله تعالى معللة بالأغراض كقوله تعالى :﴿كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس﴾ (إبراهيم، ١)
. وقوله :﴿وما خلقت الجنّ والأنس إلا ليعبدون﴾ (الذاريات، ٥٦)