﴿وأوحى ربك إلى النحل﴾ وحي إلهام. قال الضحاك : ألهمها ولم يرسل إليها رسولاً والمراد من الإلهام أنه تعالى قدر في أنفسها هذه الأعمال العجيبة التي يعجز عنها العقلاء من البشر وبيانه من وجوه : الأوّل : ما ذكر الله بقول تعالى :﴿أن اتخذي﴾ أي : بأن اتخذي ويجوز أن تكون مفسرة لأنّ في الإيحاء معنى القول :﴿من الجبال بيوتاً﴾ تأوين إليها وإنما سمي ما تبنيه لتتعسل فيه بيتاً تشبيهاً ببيت الإنسان، فتبني البيوت المسدسة من أضلاع متساوية لا يزيد بعضها على بعض
٢٧٣
بمجرّد طبعها والعقلاء من البشر لا يمكنهم، مثل تلك البيوت إلا بآلات وأنظار دقيقة. الثاني : أنه ثبت في الهندسة أنّ تلك البيوت لو كانت مشكلة بأشكال سوى المسدّسات كأن كانت مدورة أو مثلثة أو مربعة أو غير ذلك من الأشكال فإنه تبقى بالضرورة فيما بين تلك البيوت فرج خالية ضائعة فاهتداء هذا الحيوان الضعيف إلى هذه الحكمة الخفية والدقيقة اللطيفة من الأعاجيب. الثالث : أنّ النحل يحصل بينها واحد كالرئيس للبقية وذلك الواحد يكون أعظم جثة من الباقي ويكون نافذ الحكم على تلك البقية وهم يخدمونه ويحملونه عند تعبه وذلك أيضاً من الأعاجيب.
الرابع : أنها إذا انفردت عن وكرها ذهبت مع الجمعية إلى موضع آخر فإذا أرادوا عودها إلى وكرها ضربوا الطبول وآلات الموسيقى فبواسطة تلك الألحان يقدرون على ردها إلى أوكارها، وهذه أيضاً حالة عجيبة فلما امتاز هذا الحيوان بهذه الخواص العجيبة الدالة على مزيد الذكاء والكياسة كان ليس إلا على سبيل الإلهام وهو حالة شبيهة بالوحي، والوحي قد ورد في حق الأنبياء كقوله تعالى :﴿وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب﴾ (الشورى ٥١)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٧٣
وفي حق الأولياء قال تعالى :﴿وإذ أوحيت إلى الحواريين﴾ (المائدة، ١١١)
وبمعنى الإلهام في حق البشر قال تعالى :﴿وأوحينا إلى أمّ موسى﴾. (القصص، ٧)
وفي حق سائر الحيوانات خاص. قال الزجاج : يجوز أن يقال سمي هذا الحيوان نحلاً لأنّ الله تعالى نحل الناس العسل الذي يخرج من بطونها. وقال غيره : النحل يذكر ويؤنث وهي مؤنثة في لغة الحجاز، ولذلك أنثها الله تعالى وكذلك كل جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء. ﴿و﴾ اتخذي ﴿من الشجر﴾ أي : الصالحة بيوتاً ﴿و﴾ اتخذي ﴿مما يعرشون﴾ أي : الناس فيبنون تلك الأماكن وذلك أنّ النحل منه وحشي وهو الذي يسكن الجبال والشجر والكهوف، ومنه أهليّ وهو الذي يأوي إلى البيوت وتربيه الناس عندهم وقد جرت العادة أنّ الناس يبنون للنحل الأماكن حتى يأوي إليها وذكر ذلك بحرف التبعيض لأنها لا تبنى في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش من الكرم أو سقف ولا في كل مكان منها. وقرأ ابن عامر وشعبة بضم الراء والباقون بكسرها.
تنبيه : ظاهر قوله تعالى :﴿اتخذي﴾ أمر، وقد اختلفوا فيه فمن الناس من يقول : لا بُعد أن يكون لهذه الحيوانات عقول ولا بدع أن يتوجه عليها من الله أمر ونهي. وقال آخرون : بل المراد منه أنه تعالى خلق فيها غرائز وطبائع توجب هذه الأحوال، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله في سورة النمل، عند قوله تعالى :﴿يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم﴾. (النمل، ١٨)
ولما كان أهم شيء للحيوانات بعد الراحة من همّ المقيل أكل شيء، ثنى به فقال :
﴿ثم كلي من كل الثمرات﴾ أي : من كل ثمرة يشتهيها مرّها وحلوها، وذكر ذلك بحرف التراخي إشارة إلى عجيب الصنع في ذلك وتيسيره لها. تنبيه : لفظ من هذا للتبعيض أو لابتداء الغاية. ولما أذن لها في ذلك كله، وكان من المعلوم عادة أنّ تعاطيه لا يكون إلا بمشقة عظيمة في معاناة السير إليه نبه على خرقه العادة في تيسيره لها بقوله تعالى :﴿فاسلكي سبل ربك﴾ أي : الطرق التي ألهمك الله تعالى أن تسلكيها وتدخلي فيها لأجل طلب الثمار وقوله تعالى :﴿ذللاً﴾ جمع ذلول حال من السبل، أي : مسخرة لك فلا تعسر عليك وإن توعرت ولا تضلي عن العود وإن بعدت. وقيل : من الضمير في اسلكي، أي : منقادة لأربابها حتى أنهم ينقلونها من مكان إلى مكان آخر حيث شاؤوا وأرادوا لا تستعصي عليهم. وقوله
٢٧٤


الصفحة التالية
Icon