ثم ذكر تعالى نوعاً آخر من دلائل التوحيد بقوله تعالى :﴿والله﴾ أي : الذي له الحكمة البالغة. ﴿جعل لكم من بيوتكم﴾ وأصل البيت المأوى ليلاً ثم اتسع فيه ﴿سكناً﴾ أي : موضعاً لتسكنوا فيه. تنبيه : البيوت التي يسكن الإنسان فيها على قسمين : أحدهما : البيوت المتخذة من الخشب والطين والآلات التي بها يمكن تسقيف البيوت، وإليها الإشارة بقوله تعالى :﴿والله جعل لكم من بيوتكم سكناً﴾ وهذا القسم من البيوت لا يمكن نقلها، بل الإنسان ينتقل إليها. والقسم الثاني : القباب والخيام والفساطيط، وإليها الإشارة بقوله تعالى :﴿وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً﴾ المتخذة من الأدم ويجوز أن يتناول المتخذة من الوبر والصوف والشعر فإنها من حيث أنها ثابتة على جلودها يصدق عليها أنها من جلودها ﴿تستخفونها﴾ أي : تتخذونها خفيفة يخف عليكم حملها ونقلها. ﴿يوم ظعنكم﴾ أي : وقت ترحالكم وعبر باليوم لأنّ الترحال في النهار ﴿ويوم إقامتكم﴾ أي : وقت الحضر أو وقت النزول وهذا القسم من البيوت يمكن نقلها وتحويلها من مكان إلى مكان. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح العين والباقون بالسكون، وأضاف قوله تعالى :﴿ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها﴾ إلى ضمير الأنعام لأنها من جملتها. قال المفسرون وأهل اللغة : الأصواف للضأن والأوبار للإبل والأشعار للمعز. ﴿أثاثاً﴾ أي : ما يلبس ويفرش ﴿ومتاعاً﴾ أي : ما يتجر به، وقيل : الأثاث ما يكتسي به المرء ويستعمله في الغطاء والوطاء، والمتاع ما يفرش في المنازل ويتزين به واختلف في معنى قوله تعالى :﴿إلى حين﴾ فقيل : إلى حين تبلى، وقيل : إلى
٢٨٣
حين الموت، وقيل : إلى حين بعد حين، وقيل : إلى يوم القيامة.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٨٣
تنبيه : في نصب أثاثاً وجهان : أحدهما : أنه منصوب عطفاً على بيوتاً، أي : وجعل لكم من أصوافها أثاثاً. والثاني : أنه منصوب على الحال، واعلم أنّ الإنسان إمّا أن يكون مقيماً أو مسافراً والمسافر إمّا أن يكون غنياً يستصحب معه الخيام أولا فالقسم الأوّل أشار إليه بقوله تعالى :﴿جعل لكم من بيوتكم سكناً﴾ وأشار إلى القسم الثاني بقوله تعالى :﴿وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً﴾ وأشار إلى القسم الثالث بقوله تعالى :﴿والله﴾ أي : الذي له الجلال والإكرام ﴿جعل لكم﴾ أي : من غير حاجة منه تعالى ﴿مما خلق﴾ من شجر وجبال وأبنية وغيرها. وقوله تعالى :﴿ظلالاً﴾ جمع ظل تتقون به شدّة الحرّ. وقوله تعالى :﴿وجعل لكم﴾ مع غناه المطلق ﴿من الجبال أكناناً﴾ جمع كنّ موضع تسكنون فيه من الكهوف والبيوت المنحوتة فيها ﴿وجعل لكم﴾ أي : امتناناً منه عليكم ﴿سرابيل﴾ جمع سربال. قال الزجاج : كل ما لبسته فهو سربال من قميص أو درع أو جوشن أو غيره، أي : وسواء كان من صوف أو كتان أو قطن أو غير ذلك ﴿تقيكم الحرّ﴾ ولم يقل تعالى والبرد لتقدّمه في قوله تعالى :﴿فيها دفء﴾ (النحل، ٥)
. وقيل : إنه اكتفى بأحد المتقابلين. وقيل : كان المخاطبون بهذا الكلام العرب وبلادهم حارّة فكان حاجتهم إلى ما يدفع الحرّ فوق حاجتهم إلى ما يدفع البرد كما قال تعالى :﴿ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها﴾ وسائر أنواع الثياب أشرف إلا أنه تعالى ذكر ذلك النوع لأنه كان الفهم بها أشدّ واعتيادهم للبسها أكثر، ولما كانت السرابيل نوعاً واحداً لم يكرّر لفظ جعل فقال :﴿وسرابيل﴾ أي : دروعاً من حديد وغيرها ﴿تقيكم بأسكم﴾ أي : حربكم، أي : في الطعن والضرب فيها. ولما عدّد الله تعالى أنواع نعمه قال :﴿كذلك﴾ أي : كإتمام هذه النعمة المتقدّمة ﴿يتمّ نعمته عليكم﴾ في الدنيا والدين بالبيان والهداية لطريق النجاة والمنافع والتنبيه على دقائق ذلك ﴿لعلكم﴾ يا أهل مكة ﴿تسلمون﴾ أي : تخلصون لله الربوبية وتعلمون أنه لا يقدر على هذه الأنعامات أحد سواه، وقيل : تسلمون من الجراح بلبس الدروع.
﴿فإن تولوا﴾ فلم يقبلوا منك وآثروا لذات الدنيا ومتابعة الآباء والمعاداة في الكفر ﴿فإنما عليك﴾ يا أفضل الخلق ﴿البلاغ المبين﴾ هذا جواب الشرط وفي الحقيقة جواب الشرط محذوف، أي : فقد تمهد عذرك بعد ما أدّيت ما وجب عليك من التبليغ فذكر سبب العذر وهو البلاع ليدل على المسبب وذلك لأنّ تبلغيه سبب في عذره فأقيم السبب مقام المسبب وهذا قبل الأمر بالقتال، ثم إنه تعالى ذمّهم بأنهم
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٨٣