ربك} أي : المحسن إليك بطواعية أصحابك لك، ﴿ليحكم بينهم﴾ أي : هؤلاء المختلفين ﴿يوم القيامة﴾ وهو يوم اجتماع جميع الخلائق ﴿فيما كانوا فيه يختلفون﴾ فيحكم للمحقين بالثواب وللمبطلين بالعقاب. ولما أمر الله تعالى محمداً ﷺ باتباع إبراهيم عليه الصلاة والسلام بين الشيءالذي أمره بمتابعته فيه بقوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٩٨
﴿ادع﴾ أي : كل من تمكن دعوته ممن بعثت إليه ﴿إلى سبيل ربك﴾ أي : المحسن إليك بتسهيل السبيل الذي تدعو إليه واتساعه وهو الإسلام الذي هو الملة الحنيفية ﴿بالحكمة﴾ أي : المعاملة المحكمة وهو الدليل الواضح المزيل للشبهة ﴿والموعظة الحسنة﴾ أي : بالدعاء إلى الله تعالى بالترغيب والترهيب بالخطابات المتقنة والعبارات النافعة. والأولى لدعوى خواص الأمة الطالبين للحقائق والثانية لدعوى عوامهم ﴿وجادلهم﴾ أي : وجادل معانديهم ﴿بالتي﴾ أي : بالمجادلة التي ﴿هي أحسن﴾ كالدعاء إلى الله تعالى بآياته والدعاء إلى حججه بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين من غير غلظ ولا تعسف فإن ذلك أنفع في تسكين لهبهم، وتبيين شبههم، وقيل : المراد بالحكمة القرآن، أي : ادعهم بالقرآن والموعظة الحسنة الرفق واللين في الدعوة، وفي الأمر بالمجادلة التي هي أحسن الإعراض عن أذاهم وعدم التقصير في تبليغ الرسالة والدعاء إلى الحق وعلى هذا القول قال بعض علماء التفسير : هذا منسوخ بآية السيف، وقيل : إنّ الناس خلقوا وجبلوا على ثلاثة أقسام : القسم الأوّل : العلماء الكاملون وهم أصحاب العلوم الصحيحة والبصائر الشافية الذين يطلبون معرفة الأشياء على حقائقها فهؤلاء هم المشار إليهم بقوله تعالى :﴿ادع إلى سبيل ربك بالحكمة﴾ أي : ادعهم بالدلائل القطعية اليقينية حتى يعلموا الأشياء بحقائقها وينفعوا الناس وهم خواص العلماء من الصحابة وغيرهم. القسم الثاني : أصحاب الفطرة السليمة والخلقة الأصلية وهم غالب الناس الذين لم يبلغوا حد الكمال ولم ينزلوا إلى حضيض النقصان فهم أوسط الأقسام وهم المشار إليهم بقوله تعالى :﴿والموعظة الحسنة﴾ أي : ادع هؤلاء بالموعظة الحسنة. القسم الثالث : أصحاب جدال وخصام ومعاندة وهؤلاء هم المشار إليهم بقوله تعالى :﴿وجادلهم بالتي أحسن﴾ أي : حتى ينقادوا إلى الحق ويرجعوا إليه.
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٠٢
إن ربك﴾ المحسن إليك بالتخفيف عنك ﴿هو أعلم﴾ أي : من كل من يتوهم فيه علم ﴿بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين﴾ أي : فهو سبحانه وتعالى أعلم بالفريقين فمن كان فيه خير كفاه الوعظ والنصيحة اليسيرة ومن لا خير فيه عجزت عنه الحيل وكأنك تضرب في حديد بارد فما عليك إلا البلاغ والدعوة، وأمّا حصول الهداية والضلال والمجازاة عليهما فليس ذلك إليك، وهذا قبل الأمر بالقتال. وذكر في قوله تعالى :
﴿وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به﴾ أقوال : أحدها : وهو قول ابن
٣٠٢
عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء وأبي بن كعب والشعبي : أنّ النبيّ ﷺ لما رأى عمه حمزة بن عبد المطلب وقد جدعوا أنفه وأذنه وقطعوا مذاكيره وبقروا بطنه، وأخذت هند بنت عتبة قطعة من كبده فمضغتها ثم استرطبتها لتأكلها فلم تلبث في بطنها حتى رمت بها، فبلغ ذلك النبيّ ﷺ فقال :"أما أنها لو أكلته لم تدخل النار أبداً، حمزة أكرم على الله من أن يدخل شيئاً من جسده النار، فلما نظر رسول الله ﷺ إليه نظر إلى شيء لم ينظر إلى شي قط أوجع لقلبه منه فقال النبيّ ﷺ رحمة الله عليك فإني ما علمتك إلا فعالاً للخيرات، وصولاً للرحم، ولولا حزن من بعدك عليك لسرّني أن أدعك حتى تحشر من أفواج شتى، أما والله لئن ظفرني الله بهم لأمثلنّ بسبعين منهم مكانك فنزلت، فأمسك رسول الله ﷺ عما أراد وكفر عن يمينه". وقال المسلمون أيضاً : لما رأوا ما فعل المشركون بقتلاهم يوم أحد من تبقير البطون والمثلة السيئة حتى لم يبق أحد من قتلى المسلمين إلا مثل به إلا حنظلة بن الراهب فإنّ أباه أبا عامر الراهب كان مع أبي سفيان فتركوا حنظلة لذلك فقال المسلمون حين رأوا ذلك : لئن ظفرنا عليهم لنزيدّن عليهم يعني على صنيعهم ولنمثلنّ بهم مثلة لم يفعلها أحد من العرب بأحد.
القول الثاني : أنّ هذا كان قبل الأمر بالسيف والجهاد حتى كان المسلمون قد أمروا بالقتال مع من يقاتلهم ولا يبتدؤوا بالقتال وهو قوله تعالى :﴿وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا﴾ (البقرة، ١٩)