وقوله : إذا نظر عن يمينه ضحك وإذا نظر عن شماله بكى، ففيه شفقة الوالد على أولاده وسروره وفرحه بحسن حال المؤمن منهم وحزنه على حال الكافر منهم وقوله في إدريس مرحباً بالأخ الصالح والنبيّ الصالح، قد اتفق المؤرخون أنه هو أخنوخ جدّ نوح فيكون جدّ النبيّ ﷺ كما أنّ إبراهيم جدّه فكان ينبغي أن يقول بالنبيّ الصالح والابن الصالح كما قال آدم وإبراهيم ؟
وأجيب : بأنه قيل إنّ إدريس المذكور هنا هو إلياس وهو من ذرية إبراهيم فليس هو جدّ نوح قاله القاضي عياض. وقال النووي : ليس في هذا الحديث ما يمنع كون إدريس أباً لنبينا ﷺ وأنّ قوله : الأخ الصالح يحتمل أن يكون قاله تلطفاً وتأدّباً وهو أخ وإن كان ابناً لأنّ الأنبياء إخوة والمؤمنون إخوة انتهى. وإنما أطلت في بيان ذلك لأنّ الكلام مع الأحبة يحلو ولولا خوف الملل ما اقتصرت على ذلك. فقد قال بعض المفسرين لا أعلم في الكتاب العزيز سورة تضمنت من خصائصه التي فضل بها كافة الأنبياء ما تضمنته هذه السورة ولكن في هذا القدر كفاية لأولي الألباب. ولما ثبت بهذه الخارقة ما أخبر به ﷺ عن نفسه المقدّسة من عظيم القدرة وما جاءه ﷺ من الآيات البينات في هذا الوقت اليسير أتبعه ما منح في السير من مصر إلى الأرض المقدّسة من الآيات في مدد طوال موسى عليه الصلاة والسلام الذي كان أعظم الأنبياء بركة على هذه الأمّة ليلة الإسراء لما أرشد النبيّ ﷺ إليه من مراجعة الله تعالى في تخفيف الصلاة حتى رجعت من خمسين إلى خمس مع أجر خمسين فقال :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٠٦
﴿وآتينا﴾ أي : بعظمتنا ﴿موسى الكتاب﴾ أي : التوراة ﴿وجعلناه﴾ أي : الكتاب بما لنا من العظمة ﴿هدى لبني إسرائيل﴾ بالحمل على العدل في التوحيد والأحكام وأسرينا بموسى عليه
٣١٤
السلام وبقومه من مصر إلى بلاد المسجد الأقصى، فأقاموا سائرين إليها أربعين سنة ولم يصلوا ومات كل من خرج إلا المتقين الموفين بالعهد فقد بان الفضل بين الإسراءين كما بان الفضل بين الكتابين، فذكر الإسراء أوّلاً دليل على حذف مثله أوّلاً فالآية من الاحتباك ثم نبه على أنّ المراد من ذلك كلمة التوحيد اعتقاداً وعبادة بقوله تعالى :﴿أنّ لا﴾ أي : لئلا ﴿يتخذوا﴾ على قراءة أبي عمرو بالياء على الغيبة، وقرأ غيره بالتاء على أن لا تتخذوا كقولك كتبت إليه أن أفعل كذا. ﴿من دوني وكيلاً﴾ أي : ربا تكلون إليه أموركم، وذلك هو التوحيد فلا معراج أعلى ولا درجة أشرف ولا نعمة أعظم من أن يصير المرء غريقاً في بحر التوحيد وأن لا يعوّل في أمر من الأمور إلا على الله تعالى، فإن نطق نطق بذكر الله، وإن تفكر تفكر في دلائل تنزيه الله وإن طلب طلب من الله، فيكون كله لله وبالله وإلى الله. وقوله تعالى :
﴿ذرية﴾ نصب على الاختصاص في قراءة أبي عمرو وعلى النداء عند الباقين أي : يا ذرّية ﴿من حملنا﴾ أي : في السفينة بعظمتنا على ظهر ذلك الماء الذي طبق ما تحت أديم السماء ونبه تعالى على شرفهم وتمام نعمتهم بقوله تعالى :﴿مع نوح﴾ ففي ذلك تذكير بإنعام الله تعالى عليهم وإنجاء آبائهم من الغرق بحملهم مع نوح في السفينة. قال قتادة : الناس كلهم من ذرّية نوح لأنه كان معه في السفينة ثلاث بنين سام وحام ويافث، فالناس كلهم من ذرّية أولئك. قال البقاعي : لأنّ الصحيح أنّ من كان معه من غير ذرّيته ماتوا ولم يعقبوا ولم يقل ذرّية نوح ليعلم أنهم عقب أولاده المؤمنين لتكون تلك منة أخرى.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣١٤
ثم إنه تعالى أثنى على نوح حثاً على الاقتداء به في التوحيد كما اقتدى به آباؤهم في ذلك بقوله تعالى :﴿إنه كان عبداً شكوراً﴾ أي : مبالغاً في الشكر الذي هو صرف العبد جميع ما أنعم الله تعالى به عليه لما خلق له. روي أنه عليه الصلاة السلام كان إذا أكل قال :"الحمد لله الذي أطعمني، ولو شاء أجاعني" وفي رواية "أنه يسمي إذا أكل ويحمد إذا فرغ، وإذا شرب قال : الحمد لله الذي سقاني ولو شاء أظمأني. وإذا اكتسى قال : الحمد لله الذي كساني ولو شاء أعراني. وإذا احتذى قال : الحمد لله الذي حداني ولو شاء أحفاني. وإذا قضى حاجته قال : الحمد لله الذي أخرج عني أذاه في عافية ولو شاء حبسه". وفي رواية أنه كان يقول :"الحمد لله الذي أذاقني لذته وأبقى منفعته في جسدي وأخرج عني أذاه". وفي رواية : أنه كان إذا أراد الإفطار عرض طعامه على من مرّ به فإن وجده محتاجاً آثره به. ولما ذكر تعالى إنعامه على بني إسرائيل بإنزال التوراة عليهم، وبأنه جعل التوراة هدى لهم بين أنهم ما اهتدوا بهداه بل وقعوا في الفساد بقوله تعالى :


الصفحة التالية
Icon