﴿من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه﴾ لأنّ ثواب اهتدائه له لا ينجي غيره ﴿ومن ضل فإنما يضل عليها﴾ أي : إثمه عليها فلا يضرّ في ضلاله سواه، كما قال الكلبي دلالة على أنّ العبد متمكن من الخير والشرّ وإنه غير مجبور على عمل بعينه أصلاً لأنّ قوله تعالى :﴿من اهتدى﴾ إلى آخره إنما يليق بالقادر على الفعل المتمكن منه كيف شاء وأراد، أمّا المجبور على أحد الطرفين الممنوع عن الطرف الثاني فهذا لا يليق به، هذا مذهب أهل السنة والجماعة فاتبعه ترشد ثم إنه تعالى أعاد تقرير أنّ كل أحد مختص بأثر عمل نفسه بقوله تعالى :﴿ولا تزر﴾ أي : نفس ﴿وازرة﴾ أي : آثمة أي : لا تحمل ﴿وزر﴾ نفس ﴿أخرى﴾ بل إنما تحمل وزرها فقط. فإن قيل : ورد أنّ المظلوم يأخذ من حسنات الظالم فإذا لم يوف يؤخذ من سيئات المظلوم وتطرح على الظالم ؟
أجيب : بأنّ ذلك بسببه فهو كفعله. فإن قيل : قد ورد أن الميت ببكاء أهله ؟
أجيب : بأنّ ذلك محمول على ما إذا أوصى بذلك وكان ذلك الفعل كقول طرفة بن العبد :
*إذا مت فانعيني بما أنا أهله
** وشقي عليّ الجيب يا ابنة معبد
وعليه حمل الجمهور الأخبار الواردة بتعذيب الميت على ذلك. فإن قيل : ذنب الميت فيما إذا أوصى أو أمر بذلك فلا يختلف عذابه بامتثالهم وعدمه ؟
أجيب : بأنّ الذنب على السبب يعظم بوجود المسبب وشاهده "من سن سنة سيئة" الخ وقال الشيخ أبو حامد : إنّ ما ذكر محمول على الكافر وغيره من أهل الذنوب. ثم قال تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٢٢
وما كنا﴾
أي : على ما لنا من القدرة ﴿معذبين﴾ أحداً ﴿حتى نبعث رسولاً﴾
٣٢٢
يبين له ما يجب عليه فمن بلغته دعوته فخالف أمره واستكبر عن اتباعه عذبناه بما يستحقه وهذا أمر قد تحقق بإرسال آدم عليه السلام ومن بعده من الأنبياء الكرام عليهم السلام في جميع الأمم قال تعالى :﴿ولقد بعثنا في كل أمّة رسولاً﴾ (النحل، ٣٦)
. وقال تعالى :﴿وإن من أمّة إلا خلا فيها نذير﴾ (فاطر، ٢٤)
فإنّ دعوتهم إلى الله تعالى قد انتشرت وعمت الأقطار واشتهرت. فإن قيل : الحجة لازمة لهم قبل بعثة الرسول لأنّ معهم أدلة العقل التي بها يعرف الله تعالى وقد أغفلوا النظر وهم متمكنون منه، واستحقاقهم العذاب لإغفالهم النظر فيما معهم، وكفرهم لذلك لا لإغفال الشرائع التي لا سبيل إليها إلا بالتوقيف، والعمل بها لا يصح إلا بعد الإيمان ؟
أجيب : بأنّ بعثة الرسول من جملة التنبيه على النظر والإيقاظ من رقدة الغفلة لئلا يقولوا :﴿إنا كنا عن هذا غافلين﴾ (الأعراف، ١٧٢)، فهلا بعثت إلينا رسولاً ينبهنا على النظر في أدلة العقل، وفي الآية دليل على أن لا وجوب قبل الشرع.
فائدة : في حكم أهل الفترتين بين نوح وإدريس وبين عيسى ومحمد ﷺ وهم ثلاثة عشر قسماً ؛ ستة سعداء وأربعة أشقياء وثلاثة تحت المشيئة، فأمّا السعداء فقسم وحّد الله تعالى بنور وجده في قلبه كقس بن ساعدة فإنه كان يقول إذا سئل هل لهذا العالم إله ؟
قال : البعرة تدل على البعير وأثر الأقدام يدل على المسير. وقسم وحد الله تعالى بما تجلى لقلبه من النور الذي لا يقدر على دفعه، وقسم ألقى في نفسه واطلع من كشفه على منزلة محمد ﷺ فآمن من به في عالم الغيب، وقسم اتبع ملة حق ممن تقدمة، وقسم طالع في كتب الأنبياء فعرف شرف محمد ﷺ فآمن به وقسم آمن بنبيه الذي أرسل إليه وأدرك رسالة محمد ﷺ وآمن به فله أجران. وأما الأشقياء فقسم عطل لا عن نظر بل عن تقليد، وقسم عطل بعدما أثبت لا عن استقصاء بنظر، وقسم أشرك عن تقليد محض، وقسم علم الحق وعانده، وأما الذي تحت المشيئة فقسم عطل فلم يقر بوجوده عن نظر قاصر لضعف في مزاجه، وقسم أشرك عن نظر أخطأ فيه، وقسم عطل بعدما أثبت لا عن نظر بلغ فيه أقصى القوّة هكذا قسم محيي الدين بن عربي في الباب العاشر من الفتوحات المكية نقل ذلك عن شيخ وقته الشيخ عبد الوهاب الشعراني، ونقل عن السيوطي أنّ أبوي النبيّ ﷺ لم تبلغهما الدعوة والله تعالى يقول :﴿وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً﴾ وحكم من لم تبلغه الدعوة أنه يموت ناجياً ولا يعذب ويدخل الجنة. قال : وهذا مذهب لا خلاف فيه بين المحققين من أئمتنا الشافعية في الفقه والأشاعرة في الأصول، ونص على ذلك الإمام الشافعيّ رضي الله عنه، وتبعه على ذلك الأصحاب، قال السيوطي : وقد ورد في الحديث أن الله تعالى أحيا أبويه حتى آمنا به، وعلى ذلك جماعة من الحفاظ منهم الخطيب البغدادي وأبو القاسم بن عساكر وأبو حفص بن شاهين والسهيلي والقرطبي والطبري وابن المنير وابن سيد الناس وابن ناصر الدين الدمشقي والصفدي وغيرهم والأولى لنا الإمساك عن ذلك فإنّ الله تعالى لم يكلفنا بذلك ونكل الأمر في ذلك إلى الله تعالى، ونقول كما قال النووي لما سئل عن طائفة ابن عربي ﴿تلك أمّة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون﴾ (البقرة، ١٣٤)


الصفحة التالية
Icon