وما تكون} خطاب للنبيّ ﷺ ﴿في شأن﴾ أي : عمل من الأعمال وجمعه شؤون، والضمير في قوله تعالى :﴿وما تتلو منه﴾ إمّا للشأن ؛ لأنّ تلاوة القرآن شأن من شأن رسول الله ﷺ بل هو معظم شأنه، وإمّا للتنزيل كأنه قيل : وما تتلو من التنزيل ﴿من قرآن﴾ لأنّ كل جزء منه قرآن، والإضمار قبل الذكر تفخيم له، وإما لله تعالى، والمعنى : وما تتلو من الله من قرآن نازل عليك، وقوله تعالى ﴿ولا تعملون من عمل﴾ أي : أيّ عمل كان تعميم للخطاب بعد تخصيصه بمن هو رئيسهم وهو النبيّ ﷺ ولذلك ذكر حيث خص بما فيه فخامة وهو الشأن، وذكر حيث عمّ بقوله تعالى : من عمل، بما يتناول الجليل والحقير، وقيل : إنّ الكل داخلون في الخطابين الأوّلين أيضاً ؛ لأنه من المعلوم أنه إذا خوطب رئيس القوم كان القوم داخلين في ذلك الخطاب، كما في قوله تعالى :﴿يا أيها النبيّ إذا طلقتم النساء﴾ (الطلاق، ١).
﴿إلا كنا عليكم شهودا﴾ أي : رقباء نحصي عليكم أعمالكم ؛ لأنّ الله تعالى رقيب على كل شيء وعالم بكل شيء إذ لا محدث ولا خالق ولا موجد إلا الله تعالى، فكل ما يدخل في الوجود هنا من أحوال العباد وأعمالهم الظاهرة والباطنة داخل في علمه وشاهد عليه ﴿إذ تفيضون﴾ أي : الله شاهد عليكم حين تدخلون وتخوضون ﴿فيه﴾ أي : ذلك العمل. وقيل : الإفاضة الدفع بكثرة. وقال الزجاج : إذ تنتشرون فيه، يقال : أفاض القوم في الحديث إذا انتشروا فيه ﴿وما يعزب﴾ أي : يغيب ﴿عن ربك﴾ يا محمد ﴿من مثقال﴾ أي : وزن ﴿ذرّة﴾ وهي النملة الحمراء الصغيرة خفيفة الوزن جدّاً. وقيل : المراد بها الهباء وهو الشيء المنبث الذي تراه في البيت في ضوء الشمس. وقرأ الكسائي بكسر الزاي والباقون بالضم، ومن صلة على القراءتين، وإنما قيد بقوله تعالى :﴿في الأرض ولا في السماء﴾ تقريباً لعقول العامّة. فإن قيل : لم قدّم ذكر الأرض على السماء، وقدم ذكر السماء على الأرض في سورة سبأ حيث قال تعالى :﴿ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في
٣٠
الأرض﴾
فما فائدة ذلك ؟
أجيب : بأنّ الكلام هنا في حال أهلها، والمقصود منه هو البرهان على إحاطة علمه، على أنّ العطف بالواو حكمه حكم التثنية ﴿ولا أصغر من ذلك﴾ أي : الذرّة ﴿ولا أكبر﴾ أي : منها ﴿إلا في كتاب مبين﴾ أي : بين وهو اللوح المحفوظ. وقرأ حمزة برفع الراء من أصغر وأكبر على الابتداء والخبر، والباقون بالنصب على أنّ ذلك اسم لا وفي كتاب خبرها
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٨
ألا إنّ أولياء الله﴾
أي : الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة ﴿لا خوف عليهم﴾ من لحوق مكروه ﴿ولا هم يحزنون﴾ بفوات مأمول، وفسرهم بقوله تعالى :
﴿الذين آمنوا وكانوا يتقون﴾ الله بامتثال أمره ونهيه، وهذا الذي فسر الله تعالى به الأولياء لا مزيد عليه. وعن علي رضي الله عنه : هم قوم صفر الوجوه من السهر، عمش العيون من العبر، خمص البطون من الخوا. وعن سعيد بن جبير أنّ رسول الله ﷺ سئل من أولياء الله تعالى ؟
فقال :"هم الذين يذكر الله برؤيتهم" يعني السمت والهيئة. وعن ابن عباس : الإخبات والسكينة. وعن عمر رضي الله تعالى عنه سمعت رسول الله ﷺ يقول :"إنّ من عباد الله عباداً ما هم بأنبياء ولا شهداء تغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله، قالوا : يا رسول الله أخبرنا من هم ؟
وما أعمالهم ؟
فلعلنا نحبهم، قال : هم قوم تحابوا في الله بغير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فوالله إنّ وجوههم لنور، وإنهم لعلى منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس" ثم قرأ الآية. ونقل النووي في مقدمة "شرح المهذب" عن الإمامين الشافعيّ وأبي حنيفة رضي الله تعالى عنهما أنّ كلاً منهما قال : إذا لم تكن العلماء أولياء لله فليس لله وليّ. وذلك في العالم العامل بعلمه. وقال القشيري : من شرط الوليّ أن يكون محفوظاً كما أن من شرط النبيّ أن يكون معصوماً، فكل من كان للشرع عليه اعتراض فهو مغرور مخادع. فالوليّ هو الذي توالت أفعاله على الموافقة. ولما نفى الله عنهم الخوف والحزن زادهم فقال تعالى مبيناً لتوليته لهم بعد أن شرع بتوليتهم له :
﴿لهم البشرى﴾ أي : الكاملة ﴿في الحياة الدنيا وفي الآخرة﴾ أمّا البشرى في الدنيا ففسرت بأشياء منها : الرؤيا الصالحة، فقد ورد أنه ﷺ قال :"البشرى هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له". وقال ﷺ "ذهبت النبوة وبقيت المبشرات" وقال :"الرؤيا الصالحة من الله، والحلم من الشيطان، فإذا حلم أحدكم حلماً يخافه فليتعوّذ منه وليبصق عن شماله ثلاث مرّات فإنه لا يضرّه". وقال :"الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة" ومنها : محبة الناس
٣١


الصفحة التالية
Icon