ولما رغب تعالى في البذل وكانت النفس قلما يكون فعلها قواماً بين الإفراط والتفريط أتبع ذلك بقوله تعالى :﴿ولا تبذر﴾ بتفريق المال سرفاً وهو بذله فيما لا ينبغي وقد كانت الجاهلية تبذر أموالها في الفخر والسمعة وتذكر ذلك في أشعارها فأمر الله تعالى بالنفقة في وجوهها مما يقرب منه ويزلف إليه وفي قوله تعالى :﴿تبذيراً﴾ تنبيه على أنّ الارتفاع نحو ساحة التبذير أولى من الهبوط إلى مضيق الشح والتقتير والتبذير بسط اليد في المال على حسب الهوى. وقد سئل ابن مسعود عن التبذير فقال : إنفاق المال في غير حقه، وأمّا الجود فهو اتباع أمر الله تعالى في حقوق المال. وعن مجاهد لو أنفق الإنسان ماله كله في الحق ما كان تبذيراً ولو أنفق مدّا في باطل كان تبذيراً وقد أنفق بعضهم نفقة في خير فأكثر فقال له صاحبه لا خير في السرف فقال : لا سرف في الخير. وعن عبد الله بن عمر قال : مرّ رسول الله ﷺ بسعد وهو يتوضأ فقال :"ما هذا السرف يا سعد ؟
قال : أوفي الوضوء سرف ؟
قال : نعم وإن كنت على نهر جار". ثم نبه تعالى على قبح التبذير بإضافته إياه إلى أفعال الشياطين بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٣٣
إنّ المبذرين كانوا إخوان الشياطين﴾
أي : على طريقتهم أو هم إخوانهم وأصدقاؤهم لأنهم يطيعونهم فيما يأمرونهم به من الإسراف أو هم قرناؤهم وهم في النار على سبيل التوعد، ثم إنه تعالى بين صفة الشيطان بقوله تعالى :﴿وكان الشيطان﴾ أي : هذا الجنس البعيد من كل خير المحترق بكل شرّ ﴿لربه﴾ أي : الذي أحسن إليه بإيجاده وتربيته ﴿كفوراً﴾ أي : ستوراً لما يقدر على ستره من آياته الظاهرة ونعمته الباهرة مع الحجة فلا ينبغي أن يطاع لأنه لا يدعو إلا إلى مثل فعله.
قال بعض العلماء : خرجت هذه الآية على وفق عادة العرب وذلك لأنهم كانوا يجمعون الأموال بالنهب والغارة ثم كانوا ينفقونها في الخيلاء والتفاخر وكان المشركون من قريش وغيرهم ينفقون أموالهم ليصدّوا الناس عن الإسلام وتوهين أهله وإعانة أعدائه فنزلت هذه الآية تنبيهاً على قبح أفعالهم في هذا الباب وقوله تعالى :﴿وإمّا تعرضنّ عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها﴾ نزل في مهجع وبلال وصهيب وسالم وخباب وكانوا يسألون النبيّ ﷺ في الأحايين ما يحتاجون إليه ولا يجد فيعرض عنهم حياء منهم ويمسك لانتظار رزق من الله يرجوه أن يأتيه فيعطيه ﴿فقل لهم﴾ أي : في حالة الإعراض ﴿قولاً ميسوراً﴾ أي : ذا يسر يشرح صدروهم ويبسط رجاءهم لأنّ ذلك أقرب إلى طريق المتقين المحسنين. قال أبو حيان : روي أنه عليه الصلاة والسلام كان بعد نزول هذه
٣٣٤
الآية إذا لم يكن عنده ما يعطي وسئل يقول :"يرزقنا الله تعالى وإياكم من فضله" انتهى. وقد وقع هذا الابتغاء موضع الفقد لأنّ فاقد الرزق مبتغ له فكان الفقد سبباً للابتغاء والابتغاء مسبباً عنه فوضع المسبب موضع السبب، ثم أمر تعالى نبيَّه بما وصف له عباده المؤمنين في الإنفاق في سورة الفرقان بقوله تعالى :﴿والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما﴾ (الفرقان، ٦٧)
. فقال تعالى :﴿ولا تجعل يدك﴾ أي : بالبخل ﴿مغلولة﴾ أي : كأنها بالمنع مشدودة بالغل ﴿إلى عنقك﴾ أي : لا تستطيع مدّها أي : لا تمسك عن الإنفاق بحيث تضيق على نفسك وأهلك في وجوه صلة الرحم وسبيل الخيرات، والمعنى لا تجعل يدك في انقباضها كالمغلولة الممنوعة من الانبساط ﴿ولا تبسطها﴾ بالبذل ﴿كل البسط﴾ فتبذر بحيث لا يبقى في يدك شيء. ذكر الحكماء في كتب الأخلاق أنّ لكل خلق طرفي إفراط وتفريط وهما مذمومان والخلق الفاضل هو العدل والوسط، فالبخل إفراط في الإمساك والتبذير إفراط في الإنفاق وهما مذمومان والمعتدل هو الوسط. وعن جابر أتى رسول الله ﷺ صبيّ فقال : يا رسول الله إنّ أمي تستكسيك درعاً أي : قميصاً ولم يكن لرسول. الله ﷺ إلا قميصه فقال للصبيّ :"من ساعة إلى ساعة". هذا متعلق بمحذوف، أي : أخر سؤالك من ساعة ليس لنا فيها درع إلى ساعة يظهر لنا فيها درع فعد إلينا فذهب إلى أمّه فقالت له : قل له إنّ أمي تستكسيك الدرع الذي عليك فدخل رسول الله ﷺ ونزع قميصه فأعطاه وقعد عرياناً أي : في إزار ونحوه فأذن بلال بالصلاة فانتظره فلم يخرج فشغل قلوب أصحابه فدخل عليه بعضهم فرآه عرياناً. فأنزل الله تعالى ﴿ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط﴾". فتعطي جميع ما عندك.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٣٣
تنبيه : ما ذكرته عن جابر تبعاً "للكشاف" والبيضاوي والرازي وغيرهم قال الوليّ العراقي : لم أقف عليه وكذا قال الحافظ ابن حجر وقد يقال من حفظ حجة على من لم يحفظ.


الصفحة التالية
Icon