جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٤٢
فأصفاكم ربكم بالبنين} خطاب للذين قالوا الملائكة بنات الله والهمزة للإنكار، أي : أفخصكم ربكم على وجه الخلوص والصفاء بأفضل الأولاد وهم البنون، ولم يجعل فيهم نصيباً لنفسه ﴿واتخذ من الملائكة إناثاً﴾ أي : بنات لنفسه وهذا خلاف ما عليه معقولكم وعادتكم، فإنّ العبيد لا يستأثرون بأجود الأشياء وأصفاها من الشوائب ويكون أردؤها وأدونها للسادات ﴿إنكم لتقولون قولاً عظيماً﴾ بإضافة الأولاد إليه لأن إثبات الولد يقتضي كونه تعالى مركباً من الأبعاض والأجزاء وذلك يقدح في كونه قديماً واجب الوجود لذاته، وأيضاً فبتقدير ثبوت الولد فقد جعلوا أشرف القسمين لأنفسهم وأخس القسمين لله تعالى وهذا جهل عظيم، وأيضاً جعلوا الملائكة الذين هم من أشرف خلق الله الذين منهم من يقدر على حمل الأرض وقلب أسفلها على أعلاها إناثاً في غاية الرخاوة.
ولما كان في هذا من البيان ما لا يخفى على إنسان ولم يرجعوا أشار إلى أنّ لهم مثل هذا الإعراض عن أمثال هذا البيان فقال تعالى :
﴿ولقد صرّفنا﴾ أي : بينا بياناً عظيماً بأنواع طرق البيان من العبر والحكم والأمثال والأحكام والحجج والإعلام في قوالب الوعد والوعيد والأمر والنهي والمحكم والمتشابه إلى غير ذلك ﴿في هذا القرآن﴾ أي : في مواضع منه من الأمثال كما قال تعالى :﴿ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل﴾ (الروم، ٥٨)
قيل لفظة في زائدة كما في قوله تعالى :﴿وأصلح لي في ذريتي﴾ (الأحقاف، ١٥)
. ورد بأنّ في لا تزاد وما ذكر متأوّل كما يأتي إن شاء الله تعالى في الأحقاف والتصريف لغة صرف الشيء من جهة إلى أخرى ثم صار كناية عن التبيين قاله أبو حيان. وقوله تعالى :﴿ليذكروا﴾ متعلق بصرفنا وقرأ حمزة والكسائي بسكون الذال ورفع الكاف من غير تشديد من الذكر الذي هو بمعنى التذكر والباقون بفتح الذال والكاف مع تشديدهما. ﴿وما يزيدهم﴾ أي : التصريف ﴿إلا نفوراً﴾ أي : تباعداً عن الحق وقلة طمأنينة إليه، وعن سفيان كان إذا قرأها قال : زادني ذلك لك خضوعاً ما زاد أعداءك نفوراً. ثم قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم
﴿قل﴾ أي : لهؤلاء المشركين ولا تيأس من رجوع بعضهم. ﴿لو كان معه آلهة كما تقولون﴾ من هذه الأقوال التي لو قالها أعظمكم في حق أدناكم وهو يريد بها حقيقتها لصار ضحكة للعباد ﴿إذا لابتغوا﴾ أي : طلبوا طلباً عظيماً ﴿إلى ذي العرش﴾ أي : صاحب السرير الأعظم المحيط الذي من ناله كان منفرداً بالتدبير ﴿سبيلاً﴾ أي : طريقاً سالكاً يتوصلون به إليه ليقهروه ويزيلوا ملكه كما ترون فعل ملوك الدنيا بعضهم مع بعض أو ليتخذوا عنده يداً يقربهم إليه، وقرأ ابن كثير وحفص بالياء على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب وأدغم أبو عمرو الشين من العرش في السين بخلاف عنه.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٤٢
ثم نزه سبحانه وتعالى نفسه فقال عز من قائل :
﴿سبحانه﴾ أي : تنزه التنزه الأعظم عن كل شائبة نقص ﴿وتعالى﴾ أي : علا أعلى العلوّ بصفات الكمال ﴿عما يقولون﴾ أي : من هذه النقائص التي لا يرضاها لنفسه أحد من عقلاء خلقه ﴿علوّاً﴾ أي : تعالياً ﴿كبيراً﴾ أي : متباعداً غاية البعد عما يقولون فإنه تعالى في أعلى مراتب الوجود وهو كونه واجب الوجوب والبقاء لذاته.
تنبيه : جعل العلوّ مصدر التعالي ومصدره تعالياً كما قدّرته فهو المراد ونظيره قوله تعالى :
٣٤٣
﴿والله أنبتكم من الأرض نباتاً﴾ (نوح، ١٧)
. فإن قيل : ما الفائدة في وصف ذلك العلو بالكبير ؟
أجيب : بأنّ المنافاة بين ذاته وصفاته سبحانه وبين ثبوت الصاحبة والولد والشركاء والأضداد والأنداد منافاة بلغت في القوّة والكمال إلى حيث لا تعقل الزيادة عليها لأنّ المنافاة بين الواجب لذاته وبين الممكن لذاته وبين القديم والمحدث وبين الغني والمحتاج منافاة لا تعقل الزيادة عليها فلهذا السبب وصف الله تعالى ذلك العلو بالكبير. وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على الخطاب والباقون بالياء على الغيبة، ثم استأنف تعالى بيان عظمة هذا التنزيه مقروناً بالوصف بالكمال فقال :
﴿تسبح﴾ أي : توقع التنزيه الأعظم ﴿له﴾ أي : الإله الأعظم الذي تقدّم وصفه بالجلال والإكرام خاصة ﴿السموات السبع والأرض﴾ أي : السبع ﴿ومن فيهنّ﴾ أي : من ذوي العقول ﴿وإن﴾ أي : وما وأغرق في النفي فقال :﴿من شيء﴾ أي : ذي عقل أو غيره ﴿إلا يسبح بحمده﴾ أي : يقول سبحان الله العظيم وبحمده، أو يقول سبحان الله وبحمده. وقال ابن عباس : وإنّ من شيء حيّ إلا يسبح بحمده. وقال قتادة : يعني الحيوانات والناميات. وقال عكرمة : الشجرة تسبح والإسطوانة تسبح وعن المقداد بن عدي : التراب يسبح ما لم يبتل فإذا ابتل ترك التسبيح والورقة تسبح ما دامت على الشجرة فإذا سقطت تركت التسبيح والماء يسبح ما دام جارياً فإذا ركد ترك التسبيح والثوب يسبح ما دام جديداً فإذا وسخ ترك التسبيح. وقال السيوطي : في جواب سؤال عن ذلك :


الصفحة التالية
Icon