وقال سعيد بن جبير : كان النبيّ ﷺ يستلم الحجر الأسود فمنعه قريش وقالوا : لا ندعك حتى تلمّ بآلهتنا وتمسها فحدّث ﷺ نفسه ما عليّ أن أفعل ذلك والله يعلم أني لها لكاره بعد أن يدعوني حتى استلم الحجر فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروي أنّ قريشاً قالوا له : اجعل آية رحمة آية عذاب وآية عذاب آية رحمة حتى نؤمن بك فنزلت :﴿وإن كادوا ليفتنونك﴾. ﴿عن الذي أوحينا إليك﴾ من أوامرنا ونواهينا ووعدنا ووعيدنا ﴿لتفتري﴾ أي : لتقول ﴿علينا غيره﴾ أي : ما لم نقله ﴿وإذاً﴾ أي : لو ملت إلى ما دعوك إليه ﴿لاتخذوك﴾ أي : بغاية الرغبة ﴿خليلاً﴾ أي : لوالوك وصافوك وأظهروا للناس أنك موافق لهم على كفرهم وراض بشركهم ومن يكن خليل الكفار لم يكن خليل الله تعالى، ولكنك أبصرت رشدك فلزمت أمر الله واستمروا على عماهم إتماماً لتفضيلنا لك على كل مخلوق.
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٦٠
ولولا أن ثبتناك﴾
أي : على الحق بعصمتنا إياك ﴿لقد كدت﴾ أي : قاربت ﴿تركن﴾ أي : تميل ﴿إليهم﴾ أي : إلى الأعداء ﴿شيئاً﴾ أي : ركونا ﴿قليلاً﴾ لمحبتك في هدايتهم وحرصك على منفعتهم ولكنا عصمناك فمنعناك أن تقرب من الركون فضلاً من أن تركن إليهم لأنّ كلمة لولا تفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره تقول لولا زيد لهلك عمرو ومعناه أنّ وجود زيد منع من حصول الهلاك لعمرو فكذلك ههنا قوله تعالى :﴿ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم﴾ معناه لولا حصل تثبيت الله لمحمد ﷺ فكان تثبيت الله مانعاً من حصول قرب الركون وهذا صريح في أنه عليه الصلاة والسلام ما همّ بإجابتهم مع قوّة الداعي إليها ودليل على أنّ العصمة بتوفيق الله وحفظه.
﴿إذاً﴾ أي : لو قاربت الركون الموصوف إليهم ﴿لأذقناك ضعف﴾ عذاب ﴿الحياة وضعف﴾ عذاب ﴿الممات﴾ أي : مثلي ما يعذب غيرك في الدنيا والآخرة وكان أصل الكلام عذاباً ضعفاً في الحياة وعذاباً ضعفاً في الممات ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه ثم أضيفت كما يضاف موصوفها وقيل المراد بضعف الحياة عذاب الآخرة وضعف الممات عذاب القبر، والسبب في تضعيف هذا العذاب أن أقسام نعمة الله تعالى في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أكثر فكانت ذنوبهم أعظم فكانت العقوبة المستحقة عليها أكثر ونظيره قوله تعالى :﴿يا نساء النبيّ من يأت منكنّ بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين﴾ (الأحزاب، ٣٠)
وقيل الضعف من أسماء العذاب ﴿ثم
٣٦١
لا تجد لك﴾
أي : وإن كنت أعظم الخلق وأعلاهم مرتبة وهمة ﴿علينا نصيراً﴾ أي : مانعاً يمنعك من عذابنا. واختلفوا في سبب نزول قوله تعالى :
﴿وإن﴾ أي : وإن هم ﴿كادوا﴾ أي : الأعداء ﴿ليستفزونك﴾ أي : ليزعجونك بمعاداتهم ﴿من الأرض ليخرجوك منها﴾ فقال ابن عباس : إنّ رسول الله ﷺ لما هاجر إلى المدينة حسدته اليهود وكرهوا قربه منهم، فقالوا : يا أبا القاسم إنّ الأنبياء إنما بعثوا بالشأم وهي بلاد مقدسة وكانت مسكن إبراهيم فلو خرجت إلى الشام آمنا بك وأتبعناك، وقد علمنا أنه لا يمنعك من الخروج إلا خوف الروم فإن كنت رسول الله فالله يمنعك منهم فعسكر رسول الله ﷺ على أميال من المدينة وقيل بذي الحليفة حتى يجتمع إليه أصحابه ويراه الناس عازماً على الخروج إلى الشام فيدخلون في دين الله فنزلت هذه الآية فرجع وهذا قول الكلبيّ وعلى هذا فالآية مدنية والمراد بالأرض أرض المدينة.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٦٠
وقال قتادة ومجاهد : الأرض أرض مكة والآية مكية، همّ المشركون أن يخرجوا رسول الله ﷺ من مكة فكفهم الله تعالى عنه حتى أمره بالهجرة فخرج بنفسه. قال ابن عادل تبعاً للرازي : وهذا أليق بالآية لأنّ ما قبلها خبر عن أهل مكة والسورة مكية وهذا اختيار الزجاج وكثير في التنزيل ذكر الأرض والمراد منها مكان مخصوص كقوله تعالى :﴿أو ينفوا من الأرض﴾ (المائدة، ٣٣)
أي : من مواضعهم. وقوله تعالى حكاية عن أخي يوسف :﴿فلن أبرح الأرض﴾ (يوسف، ٨٠)
يعني الأرض التي كان قصدها لطلب الميرة. فإن قيل : قال تعالى :﴿وكأين من قرية هي أشدّ قوّة من قريتك التي أخرجتك﴾ (محمد، ١٣)
يعني أهل مكة فالمراد أهلها، فذكر تعالى أنهم أخرجوه، وقال تعالى :﴿وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها﴾ فكيف الجمع بينهما على القول الثاني ؟
أجيب : بأنهم هموا بإخراجه وهو ﷺ ما خرج بسبب إخراجهم وإنما خرج بأمر الله تعالى وحينئذٍ فلا تناقض ﴿وإذاً﴾ أي : وإذا أخرجوك ﴿لا يلبثون خلفك﴾ أي : بعد إخراجك لو أخرجوك ﴿إلا﴾ زمناً ﴿قليلاً﴾ وقد كان كذلك على القول الثاني، فإنهم أهلكوا ببدر بعد هجرته، وعلى القول الأوّل قتل منهم بني قريظة وأجلى بني النضير بقليل. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وشعبة بفتح الخاء وسكون اللام والباقون بكسر الخاء وفتح اللام وبعدها ألف، قال الشاعر :


الصفحة التالية
Icon