ولما نزلت هذه الآية يوم الفتح جاء جبريل عليه السلام وقال لرسول الله ﷺ خذ مخصرتك ثم ألقها فجعل يأتي صنماً صنماً وهو ينكت بالمخصرة في عينه ويقول :﴿جاء الحق وزهق الباطل﴾ فينكب الصنم لوجهه حتى ألقاها جميعاً وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة وكان قوارير صفر فقال :"يا علي الزم به" فحمله رسول الله ﷺ حتى صعد ورمى به فكسره فجعل أهل مكة يتعجبون ويقولون : ما رأينا رجلاً أسحر من محمد. قال الزمخشري : وشكاية البيت والوحي إليه تخييل وتمثيل ولما بين سبحانه وتعالى الآلهيات والنبوّات والحشر والنشر والبعث وإثبات القضاء والقدر ثم أتبعه بالأمر بالصلاة ونبه على ما فيها من الأسرار وكان القرآن هو الجامع لجميع ذلك أتبعه ببيان كونه شفاء ورحمة بقوله تعالى :
﴿وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين﴾ أي : ما هو شفاء في تقويم دينهم واستصلاح نفوسهم كالدواء الشافي للمريض. تنبيه : في من هذه ثلاثة أوجه أحدها : أنه لبيان الجنس قاله الزمخشريّ والبيضاويّ وابن عطية وأبو البقاء ورد عليهم أبو حيان بأنّ التي للبيان لا بدّ أن تتقدّمها عليه ما تبينه لا أن تتقدّم عليه وهنا قد وجد تقديمها عليه. الثاني : أنها للتبعيض وأنكره الحوفي لأنه يلزم أن لا يكون بعضه شفاء. وأجاب أبو البقاء بأنّ منه ما يشفي من المرض وهذا قد وجد بدليل رقية بعض الصحابة سيد الحيّ الذي لدغ بالفاتحة فشفي من المرض فيكون التبعيض بالنسبة للأمراض الجسمانية وإلا فهو كله شفاء للأبدان وللقلوب من الاعتقادات وغيرها. الثالث : أنها لابتداء الغاية وهو كما قال ابن عادل واضح. ﴿و﴾ من العجيب أنّ هذا الشفاء ﴿لا يزيد الظالمين﴾ وهم الذين يضعون الشيء في غير موضعه بإعراضهم هما يجب قبوله ﴿إلا خسارا﴾ أي : نقصاناً لأنه إذا جاءهم وقامت به الحجة
٣٦٨
عليهم أعرضوا عنه فكان إعراضهم ذلك زيادة في كفرهم كما أن قبول المؤمنين له وإقبالهم على تدبره زيادة في إيمانهم، وفي الدارمي عن قتادة قال : ما جالس أحد القرآن فقام عنه إلا بزيادة أو نقصان ثم قرأ هذه الآية، ثم إنه تعالى ذكر السبب الأصلي في وقوع هؤلاء الكافرين الجاهلين الضالين في أودية الضلال ومقامات الخزي والنكال وهو حب الدنيا والرغبة في المال والجاه واعتقادهم أنّ ذلك إنما يحصل بسبب جدّهم واجتهادهم فقال تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٦٤
﴿وإذا أنعمنا﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿على الإنسان﴾ أي : هذا النوع هؤلاء وغيرهم وقال ابن عباس : إنّ الإنسان ههنا هو الوليد بن المغيرة. قال الرازي : وهذا بعيد بل المراد، أي : نوعُ الإنسان إذا أنعمنا عليه ﴿أعرض﴾ أي : عن ذكرنا ودعائنا إذ شأن نوع الإنسان أنه إذا فاز بمقصوده ووصل إلى مطلوبه اغتر وصار غافلاً عن عبودية الله متمرّداً عن طاعة الله كما قال تعالى :﴿إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى﴾ (العلق : ٦/ ٧)
﴿ونأى﴾ عن ذكر الله ﴿بجانبه﴾ أي : لوى عطفيه وبعد نفسه كأنه مستغني بأمره ويجوز أن يكون كناية عن الاستكبار لأنه من عادة المستكبرين ومعنى النأي في اللغة البعد والإعراض عن الشيء أن يوليه عرض وجهه. وقرأ ابن ذكوان بألف ممدودة بعد النون وتأخير الهمزة مثل جاء وفي هذه القراءة تخريجان أحدهما من نأى ينوء، أي : نهض. والثاني : أنه مقلوب من نأى فيكونان بمعنى. قال ابن عادل : ولكن متى أمكن عدم القلب فهو أولى. وقرأ الباقون بالهمزة بعد النون وألف بعد همزة وآمال الألف بعد الهمزة السوسيّ وشعبة وخلاد محضة بخلاف عن السوسي وأمالها ورش بين بين وأمال الهمزة والنون محضة خلف والكسائيّ وفتح الباقون. ﴿وإذا مسه الشرّ﴾ أي : هذا النوع وإن قل ﴿كان يؤساً﴾ أي : شديد اليأس عما عهده من رحمة ربه والحاصل أنه إن فاز بالنعمة والدولة اغتر بها ونسي ذكر الله وإن بقي في الحرمان عن الدنيا استولى عليه الأسف والحزن ولم يتفرغ لذكر الله فهذا المسكين محروم أبداً عن ذكر الله تعالى ونظيره قوله تعالى :﴿فأمّا الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن، وأمّا إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن﴾ (الفجر : ١٥، ١٦)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٦٩
وكذلك ﴿إنّ الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشرّ جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً﴾ (المعارج : ١٩، ٢٠، ٢١)
إلا من حفظه الله وشرّفه بالإضافة إليه فليس للشيطان عليه سلطان ثم قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم


الصفحة التالية
Icon