فأجمعوا أمركم} أي : فاعزموا على أمر تفعلونه في أذاي بالإهلاك أو غيره ﴿وشركاءكم﴾ أي : وادعو شركاءكم أو الواو وبمعنى مع، أي : مع شركائكم وهي الأصنام، وإنما حثهم على الاستعانة بها بناء على مذهبهم الفاسد، واعتقادهم أنها تضرّ وتنفع مع اعتقاده أنها جماد لا تضرّ ولا تنفع تبكيتاً وتوبيخاً لهم. ﴿ثم لا يكن أمركم﴾ أي : الذي تقصدوني به ﴿عليكم غمة﴾ أي : مستوراً من غمه إذا ستره، بل أظهروه وجاهروني مجاهرة، فإنه لا معارضة لي بغير الله الذي يستوي عنده السرّ والجهر ﴿ثم اقضوا إليّ﴾ أي : امضوا ما في أنفسكم وافرغوا منه، يقال : قضى فلان إذا مات، ومضى وقضى دينه إذا فرغ منه. وقيل : معناه توجهوا إليّ بالقتل والمكروه. وقيل :
٣٤
فاقضوا ما أنتم قاضون، وهذا مثل قول السحرة لفرعون :﴿فاقض ما أنت قاض﴾ أي : اعمل ما أنت عامل. ﴿ولا تنظرون﴾ أي : ولا تؤخرون بعد إعلامكم إياي ما أنتم عليه، وإنما قال ذلك إظهاراً لقلة مبالاته وثقته بما وعده ربه من كلامه وعصمته، وأنهم لن يجدوا إليه سبيلاً ﴿فإن توليتم﴾ أي : أعرضتم عن تذكيري ﴿فما سألتكم من أجر﴾ أي : من جعل وعوض على تبليغ الرسالة، فينفركم عني وتتهموني لأجله من طمع في أموالكم، وطلب أجر على عظتكم، ومتى كان الإنسان فارغاً عن الطمع كان قوله أقوى تأثيراً في القلب ﴿إن أجري إلا على الله﴾ وهو الثواب الذي يثيبني به في الآخرة، أي : ما أنصحكم إلا لوجه الله تعالى لا لغرض من أغراض الدنيا. وهكذا ينبغي لكل من ينفع الناس بعلم أو إرشاد إلى طريق الله تعالى ﴿وأمرت أن أكون من المسلمين﴾ أي : إني مأمور بالاستسلام لكل مكروه يصل إليّ منكم لأجل هذه الدعوة، وقيل : بدين الإسلام وأنا ماض فيه غير تاركٍ له قبلتموه أو لم تقبلوه.
﴿فكذبوه﴾ أي : أصرّوا على تكذيبه، بعدما ألزمهم الحجة، وبين أن توليتهم ليست إلا لعنادهم وتمردهم لا جرم حقت عليهم كلمة العذاب ﴿فنجيناه﴾ من الغرق ﴿ومن معه في الفلك﴾ أي : السفينة وكانوا ثمانين ﴿وجعلناهم﴾ أي : الذين أنجيناهم معه في الفلك ﴿خلائف﴾ في الأرض يخلقون الهالكين بالغرق ﴿وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا﴾ بالطوفان، وقوله تعالى :﴿فانظر﴾ أي : أيها الإنسان أو يا محمد ﴿كيف كان عاقبة المنذرين﴾ تعظيم لما جرى عليهم وتحذير لمن أنذرهم رسول الله ﷺ عن مثله وتسلية له، وهذه القصة إذا سمعها من صدّق النبيّ ﷺ ومن كذب به كان زجراً للمكلفين من حيث يخافون أن ينزل بهم مثل ما نزل بقوم نوح، وتكون داعية للمؤمنين على الثبات على الإيمان ليصلوا إلى مثل ما وصل إليه قوم نوح، وهذه الطريقة في الترغيب والتحذيرإذا جرت على سبيل الحكاية عمن تقدّم كانت أبلغ من الوعيد المبتدأ، ولهذا الوجه أكثر تعالى ذكر أقاصيص الأنبياء عليهم السلام.
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٤
ثم بعثنا من بعده﴾
أي : نوح ﴿رسلاً إلى قومهم﴾ لم يسم هنا تعالى من كان بعد نوح من الرسل، وقد كان بعده هود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب صلوت الله وسلامه عليهم. ﴿فجاؤوهم بالبينات﴾ أي : بالمعجزات الواضحات التي تدل على صدقهم. ﴿فما كانوا ليؤمنوا ﴾ أي : فما استقام لهم أن يؤمنوا لشدّه عنادهم وخذلان الله تعالى إياهم ﴿بما﴾ أي : بسبب ما ﴿كذبوا به من قبل﴾ أي : أنهم كانوا قبل بعثة الرسل إليهم أهل جاهلية مكذبين بالحق، فما وقع فصل بين حالتيهم بعد بعثة الرسل وقبلها كأن لم يبعث إليهم أحد ﴿كذلك﴾ أي : مثل ما طبعنا على هؤلاء بسبب تكذيبهم الرسل ﴿نطبع﴾ أي : نختم ﴿على قلوب المعتدين﴾ في كل زمن لكل من تعمد العدول فيما لا يحلّ له، فلا يقبل الإيمان لانهماكهم في الضلال واتباعهم المألوف. وفي أمثال ذلك دليل على أن الأفعال واقعة بقدرة الله تعالى وكسب العبد.
القصة الثانية : قصة موسى عليه السلام المذكورة بقوله تعالى :
﴿ثم بعثنا من بعدهم﴾ أي : هؤلاء الرسل ﴿موسى وهارون إلى فرعون وملئه﴾ أي : أشراف قومه وغيرهم تبع لهم، فهو مرسل إلى الجميع ﴿بآياتنا﴾ التسع ﴿فاستكبروا﴾ عن اتباعها والإيمان بها، وهو أعظم الكبر أن يتهاون العبيد برسالة ربهم بعد تبيينها ويتعظموا عن قبولها ﴿وكانوا قوماً مجرمين﴾ أي : كفاراً ذوي آثام عظام، فلذلك استكبروا عنها واجترؤوا عن ردّها.
٣٥
﴿فلما جاءهم الحق﴾ أي : جاء فرعون وقومه ﴿من عندنا﴾ أي : الذي جاء به موسى من عند ربه، وعرفوا أنه ليس من عند موسى وهارون لتظاهر المعجزات الظاهرات المزيحة للشك ﴿قالوا﴾ أي : غير متأملين له ولا ناظرين في أمره لفرط تمرّدهم ﴿إن هذا لسحر مبين﴾ أي : بين ظاهر يعرفه كل أحد، وهم يعلمون أنّ الحق أبعد شيء من السحر الذي لا يظهر إلا على كافر أو فاسق، وقوله تعالى :


الصفحة التالية
Icon