ونزل حين قال الكفار للنبيّ ﷺ لو نشاء لقلنا مثل هذا القرآن. ﴿قل﴾ أي : لهؤلاء البعداء ﴿لئن اجتمعت الأنس﴾ الذين تعرفونهم وتعرفون ما أوتوا من البلاغة والحكمة والذين لا تعرفونهم ﴿والجنّ﴾ الذين يأتون كهانهم ويعلمونهم ببعض المغيبات عنهم وغيرهم وترك الملائكة لأنهم لا عهد لهم بشيء من التصدي ولأنهم كانوا وسائط ﴿على أن يأتوا بمثل هذا القرآن﴾ في البلاغة وحسن النظم وكمال المعنى ﴿لا يأتون بمثله﴾ أي : لا يقدرون على ذلك فالقرآن معجز في النظم والتأليف والإخبار عن الغيوب وهو كلام في أعلى طبقات البلاغة لا يشبه كلام الخلق ولو كان مخلوقاً لأتوا بمثله.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٦٩
تنبيه : في قوله تعالى : لا يأتون بمثله قولان أظهرهما أنه جواب للقسم الموطأ له باللام والثاني : أنه جواب لشرط واعتذروا عن رفعه بأنّ الشرط ماض فهو كقوله :
وإن أتاه خليل، أي : فقير ـ يوم مسغبة يقول لا غائب مالي ولا حرم
لأنّ الشرط وقع ماضياً وناقشه أبو حيان بأنّ هذا ليس مذهب سيبويه ولا الكوفيين والمبرد لأنّ مذهب سيبويه في مثله أنّ النية به التقديم ومذهب الكوفيين والمبرد أنه على حذف الفاء وهذا مذهب ثالث قال به بعض الناس :﴿ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً﴾ أي : معيناً بضم أقوى ما فيه إلى أقوى ما في صاحبه.
٣٧٢
تنبيه : قد تقدّم في سورة البقرة أنّ الله تعالى قال :﴿فأتوا بسورة من مثله﴾ (البقرة، ٢٣)
وقدّمنا الكلام على ذلك وفي وجه كون القرآن معجزاً قولان أحدهما : أنه معجز في نفسه. والثاني : أنه ليس في نفسه معجزاً إلا أنه تعالى لما صرف دواعيهم عن الإتيان بمعارضته وكانت الدواعي متوفرة على الإتيان بهذه المعارضة مع التقديرات المذكورة يكون نقضاً للعادة فيكون معجزاً والقول الأوّل أظهر.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٦٩
﴿ولقد صرّفنا﴾ أي : بينا بوجوه مختلفة زيادة في التقرير والبيان ﴿للناس في هذا القرآن من كل مثل﴾ أي : من كل معنى هو كالمثل في غرابته ووقوعه متوقعاً في الأنفس. وقيل معناه من كل وجه من العبر والأحكام والوعد والوعيد والقصص وغيرها. وقيل صفة لمحذوف، أي : مثلاً من جنس كل مثل ليتعظوا ﴿فأبى أكثر الناس﴾ وهم من هم في صورة الناس ككفار قريش وقد سلبوا معانيهم ﴿إلا كفوراً﴾ أي : جحوداً. فإن قيل : كيف جاز ﴿فأبى أكثر الناس إلا كفوراً﴾ ولم يجز ضربت إلا زيداً ؟
أجيب : بأنّ أبى متأول بالنفي كأنه قيل فلم يرضوا إلا كفوراً.
ولما تبين بالدليل إعجاز القرآن على وفق دعوى محمد ﷺ ولزمتهم الحجة وغلبوا أخذوا يتعللون باقتراح الآيات فعل المبهوت المحجوج المتعثر في أذيال الحيرة وذكروا من ذلك ستة أنواع من المعجزات أوّلها :
﴿وقالوا﴾ أي : كفار قريش ومن والاهم ﴿لن نؤمن لك حتى تفجر﴾ أي : تفجيراً عظيماً ﴿لنا من الأرض ينبوعاً﴾ أي : عيناً غزيرة الماء من شأنها أن تنبع بالماء ولا ينضب ماؤها. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بفتح التاء وسكون الفاء وضم الجيم مخففة والباقون بضم التاء وفتح الياء وكسر الجيم المشدّدة ثانيها قولهم :
﴿أو تكون لك﴾ أنت وحدك ﴿جنة من نخيل وعنب﴾ أي : وأشجار عنب عبر
٣٧٣
عنه بالثمرة لأنّ الانتفاع منه بغيرها قليل ﴿فتفجّر الأنهار﴾ الجارية ﴿خلالها﴾ أي : وسطها ﴿تفجيراً﴾ أي : تشقيقاً والفجر شق الظلام عن عمود الصبح والفجور شق جلباب الحياء بما يخرج إلى الفساد ثالثها قولهم :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٧٣
أو تسقط السماء﴾
أي : نفسها ﴿كما زعمت﴾ فيما تتوعدنا به ﴿علينا كسفاً﴾ أي : قطعاً جمع كسفة وهي القطعة. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بنصب السين مثل قطعة وقطع وسدرة وسدر، والباقون بسكونها مثل دمنة ودمن وسدرة وسدر وهو نصب على الحال في القراءتين جميعاً كأنه قيل أو تسقط السماء علينا مقطعة. رابعها : قولهم :﴿أو تأتي﴾ معك ﴿بالله﴾ أي : الملك الأعظم ﴿والملائكة قبيلاً﴾ أي : عياناً ومقابلة ننظر إليه لا يخفى علينا شيء منه. وقال الضحاك : هو جمع قبيلة، أي : أصناف الملائكة قبيلة قبيلة. قال ابن هانئ كفيلاً، أي : يكفلون بما تقول. خامسها : قولهم :


الصفحة التالية
Icon