ويقولون}، أي : على وجه التجديد المستمرّ ﴿سبحان ربنا﴾ تنزيهاً له عن خلف الوعد ﴿إن﴾، أي : انه ﴿كان﴾، أي : كوناً لا ينفك ﴿وعد ربنا﴾، أي : المحسن إلينا بالإيمان وما تبعه من وجوه العرفان ﴿لمفعولاً﴾، أي : دون خلف ولا بدّ أن يأتي جميع ما وعد به في الكتب المنزلة وبشر به من بعثة محمد ﷺ وإنزال الفرقان عليه ومن الثواب والعقاب وهو تعريض بقريش حيث كانوا يستهزؤون بالوعيد في قولهم أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً ونحوه مما في معناه الطعن في قدرة الله تعالى القادر على كل شيء وقوله تعالى :
﴿ويخرّون للأذقان يبكون﴾ كرّره لاختلاف الحال والسبب فإنّ الأول للشك عند إنجاز الوعد والثاني لما أثر فيهم من مواعظ القرآن حال كونهم باكين من خشية الله ﴿ويزيدهم﴾، أي : سماع القرآن خشوعاً، أي : خضوعاً وتواضعاً ولين قلب ورطوبة عين. ولما طالت الكلمات في المناظرة مع المشركين ومنكري النبوّات والجواب عن شبهاتهم أتبعها ببيان كيف يدعون الله ويطيعونه وكيف يذكرونه في وقت الاشتغال بأداء العبودية فقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٨٠
﴿قل﴾ لهم ﴿ادعوا الله أو ادعوا الرحمن﴾ واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال ابن عباس : إنّ رسول الله ﷺ قال :"ذات ليلة وهو ساجد يا الله يا رحمن فسمعها ابو جهل وهم لا يعرفون الرحمن. فقال : إنّ محمداً ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلهاً آخر مع الله تعالى يقال له الرحمن، فأنزل الله تعالى هذه الآية، أي : إن شئتم قولوا يا الله وإن شئتم قولوا يا رحمن". وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت :"كان رسول الله ﷺ يجهر بالدعاء يقول : يا الله يا رحمن فسمعه أهل مكة فأقبلوا عليه فأنزل الله تعالى :﴿قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن﴾
٣٨٢
الآية". وعن ابن عباس أنّ ذكر الرحمن كان في القرآن قليلاً في أوّل ما أنزل وكان الذين قد أسلموا من اليهود يسوءهم قلة ذلك لكثرته في التوراة كابن سلام وابن يامين وابن صوريا وغيرهم، فسألوا رسول الله ﷺ ذلك فنزل قوله تعالى :﴿قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن﴾، فقال قريش : ما بال محمد كان يدعو إلها واحداً وهو الآن يدعو إلهين ما نعرف الرحمن إلا صاحب اليمامة فنزل ﴿وهم بذكر الرحمن هم كافرون﴾ (الأنبياء، ٣٦)، ونزل أيضاً قوله تعالى :﴿قالوا وما الرحمن﴾ (الرحمن، ٦٠)، وفرح مؤمنو أهل الكتاب وهو قوله تعالى :﴿الذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب﴾، أي : مشركي قريش ﴿من ينكر بعضه﴾ (الرعد، ٣٦)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٨٢
وعن ابن عباس "سئل رسول الله ﷺ عن قول الله تعالى :﴿قل ادعو الله أو ادعوا الرحمن﴾ إلى آخر الآية فقال رسول الله ﷺ هو أمان من السرقة، فإنّ رجلاً من المهاجرين تلاها حين أخذ مضجعه فدخل عليه سارق فجمع ما في البيت وحمله والرجل ليس بنائم حتى انتهى إلى الباب فوجد الباب مردوداً فوضع الكارة ففعل ذلك ثلاث مرّات فضحك صاحب الدار فقال : إني أحصن بيتي". فإن قيل : إذا قال الرجل ادع زيداً أو عمراً فهم منه كون زيد مغايراً لعمرو فيوهم كون الله تعالى غير الرحمن وحينئذ تقوى شبهة أبي جهل لعنه الله تعالى ؟
أجيب : بأنّ الدعاء هنا بمعنى التسمية لا بمعنى النداء والتسمية تتعدّى إلى مفعولين يقال دعوته زيداً ثم يترك أحدهما استغناء عنه فيقال دعوت زيداً والله والرحمن المراد بهما الاسم لا المسمى و أو للتخيير فمعنى الآية ادعوا باسم الله أو ادعوا باسم الرحمن، أي : اذكروه بهذا الاسم أو اذكروه بذلك الاسم فقوله ادعوا الله ينبه على ملزم في كرمه بحكم الوعد من إفاضة الرحمة والكرم، وأيضاً تخصيص هذين الاسمين بالذكر يدل على على أنهما أشرف من سائر الأسماء وتقديم اسم الله على اسم الرحمن يدل على أنّ قولنا الله أعظم الأسماء وتقدّم الكلام على ذلك في تفسير بسم الله الرحمن الرحيم والتنوين في قوله تعالى :﴿أياً مّا تدعوا﴾ عوض عن المضاف إليه وما صلة للأبهام المؤكد والمعنى أياً تدعوا فهو حسن فوضع موضعه قوله تعالى :﴿فله الأسماء الحسنى﴾ لأنه إذا حسنت أسماؤه كلها حسن هذان الاسمان لأنهما منها ومعنى كونها أحسن الأسماء أنها مستقلة بمعاني التمجيد والتقديس والتعظيم وقد قدّمنا ذكر الأسماء الحسنى في الأعراف عند قوله تعالى :﴿ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها﴾ (الأعراف، ١٨٠)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٨٢


الصفحة التالية
Icon