فقال عظماء المدينة : ما أنت بحقيق أن ترحم قوماً فجرة مردة عصاة، فقد كنت أجلت لهم أجلاً ولو شاؤوا لرجعوا في ذلك الأجل ولكنهم لم يتوبوا فلما قالوا ذلك غضب غضباً شديداً ثم أرسل إلى آبائهم فأتي بهم فسألهم وقال : أخبروني عن أبنائكم المردة الذين عصوني فقالوا له : أمّا نحن فلم نعصك فلم تقتلنا بقوم مردة قد ذهبوا بأموالنا وأهلكوها في أسواق المدينة ثم انطلقوا فارتقوا إلى جبل يدعى بنجلوس فلما قالوا ذلك خلا سبيلهم وجعل ما يدري ما يصنع بالفتية، فألقى الله تعالى في قلبه أن يسدّ باب الكهف عليهم واراد الله تعالى أن يكرمهم بذلك ويجعلهم آية لأمة تستخلف من بعدهم وأن يبين لهم ﴿أنّ الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ الله يبعث من في القبور﴾ (الحج، ٧)، قوله بنجلوس هكذا في النسخ والذي في حياة الحيوان منحلوس اه. فأمر دقيانوس بالكهف أن يسدّ عليهم وقال : دعوهم كما هم في الكهف يموتون جوعاً وعطشاً ويكون كهفهم الذي اختاروه قبراً لهم وهو يظن أنهم أيقاظ يعلمون ما يصنع بهم، وقد توفى الله أرواحهم وفاة النوم وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف قد غشيه ما غشيهم يتقلبون ذات اليمين وذات الشمال، ثم إنّ رجلين مؤمنين في بيت الملك دقيانوس يكتمان إيمانهما ائتمرا أن يكتبا شأن الفتية وخبرهم في لوحين من رصاص ويجعلاهما في تابوت من نحاس ويجعلا التابوت في البنيان وقالا : لعل الله يظهر على هؤلاء الفتية قوماً مؤمنين قبل يوم القيامة فيعلم من يفتح عليهم خبرهم حين يقرأ الكتاب ففعلا ذلك وبنيا عليه وبقي دقيانوس ما بقي ثم مات وقومه وقرون بعده كثيرة. وقد حكى الله تعالى عنهم أنهم لما أووا إلى الكهف ﴿فقالوا﴾، أي : عقب استقرارهم فيه ﴿ربنا آتنا من لدنك﴾، أي : من عندك ﴿رحمة﴾ توجب لنا المغفرة والرزق والأمن من عدوّك ﴿وهيئ لنا من أمرنا﴾، أي : من الأمر الذي نحن عليه من مفارقة الكفار ﴿رشداً﴾ الرشد والرشد والرشاد نقيض الضلال وفي تفسير اللفظ وجهان الأوّل أنّ التقدير هيئ لنا أمراً ذا رشد، أي : حتى نصير بسبببه راشدين مهتدين. الثاني : اجعل أمرنا رشداً كله كقولك رأيت منك رشداً. ولما أجابهم سبحانه وتعالى عبر عن ذلك بقوله تعالى :
﴿فضربنا﴾، أي : عقب هذا القول وبسببه ﴿على آذانهم﴾ حجاباً يمنع السماع، أي : أنمناهم نومة لا تنبههم الأصوات الموقظة فحذف المفعول الذي هو الحجاب كما يقال بنى على امرأته يريدون بنى عليها القبة. ثم بين تعالى أنه إنما ضرب على آذانهم ﴿في الكهف﴾، أي : المعهود وهو ظرف مكان وقوله تعالى :﴿سنين﴾ ظرف زمان وقوله تعالى :﴿عدداً﴾، أي : ذوات عدد يحتمل التكثير والتقليل فإنّ مدّة لبثهم كبعض يوم عنده كقوله تعالى :﴿لم يلبثوا إلا ساعة من نهار﴾ (الأنفاق، ٣٥). وقال الزجاج : إذا قل الشيء فهم مقدار عدده فلم يحتج إلى أن يعدّ وإذا كثر أحتاج إلى أن يعدّ ﴿ثم بعثناهم﴾، أي : أيقظناهم من ذلك
٣٩٢
النوم ﴿لنعلم﴾، أي : علم مشاهدة وقد سبق نظير هذه الآية في القرآن كثيراً منها ما سبق في سورة البقرة ﴿إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه﴾ (البقرة، ١٤٣)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٨٩
وفي آل عمران :﴿ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم﴾ (آل عمران، ١٤٢)
وقد نبهنا على ذلك في محله ﴿أيّ الحزبين﴾، أي : الفريقين المختلفين في مدّة لبثهم ﴿أحصى لما لبثوا أمداً﴾ واختلفوا في الحزبين المختلفين فقال عطاء عن ابن عباس : المراد بالحزبين الملوك الذين تداولوا المدينة ملكاً بعد ملك وأصحاب الكهف. وقال مجاهد : الحزبان من الفتية أصحاب الكهف لما تيقظوا اختلفوا في أنهم كم لبثوا ويدل له قوله تعالى :﴿قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم﴾ (الكهف، ١٩)
فالحزبان هما هذان وكان الذين ﴿قالوا ربكم أعلم بما لبثتم﴾ هم الذين علموا أنّ لبثهم قد تطاول. وقال الفرّاء : إنّ طائفتين من المسلمين في زمان أصحاب الكهف اختلفوا في مدّة لبثهم. تنبيه : أحصى فعل ماض، أي : أيهم ضبط أمر أوقات لبثهم وأمّا من جعله أفعل تفضيل فقال في "الكشاف" : ليس بالوجه السديد وذلك أنّ بناءه من غير الثلاثي المجرّد ليس بقياس ونحو أعدى من الجرب وأفلس من ابن المذلق شاذ والقياس على الشاذ في غير القرآن ممتنع فكيف به. ثم قال الله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٨٩


الصفحة التالية
Icon