﴿أن يفتنهم﴾ أي : يصرفهم ويصدّهم عن الإيمان ﴿وإنّ فرعون لعال﴾ أي : متكبر قاهر ﴿في الأرض﴾ أي : أرض مصر ﴿وإنه لمن المسرفين﴾ أي : المجاوزين الحدّ، فإنه كان من أخس العبيد وادّعى الربوبية، وكان كثير القتل والتعذيب لبني إسرائيل.
﴿وقال موسى﴾ لقومه ﴿يا قوم إن كنتم آمنتم بالله﴾ أي : صدقتم به وبآياته ﴿فعليه توكلوا﴾ أي : ثقوا به واعتمدوا عليه فإنه ناصر أوليائه ومهلك أعدائه ﴿إن كنتم مسلمين﴾ أي : مستسلمين لقضاء الله تعالى مخلصين له. وقيل : إن كنتم آمنتم بالقلب وأسلمتم بالظاهر.
﴿فقالوا﴾ مجيبين له ﴿على الله توكلنا﴾ أي : عليه اعتمدنا لا على غيره، ثم دعوا ربهم فقالوا ﴿ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين﴾ أي : لا تسلطهم علينا فيفتنوننا.
﴿ونجنا﴾ أي : خلصنا ﴿برحمتك من القوم الكافرين﴾ أي : من أيدي قوم فرعون ؛ لأنهم كانوا يستعبدونهم ويستعملونهم في الأعمال الشاقة، وإنما قالوا ذلك لأنهم كانوا مخلصين، لا جرم أنّ الله تعالى قبل توكلهم، وأجاب دعاءهم ونجاهم، وأهلك من كانوا يخافونه، وجعلهم خلفاء في الأرض. وفي تقديم التوكل على الدعاء تنبيه على أنّ الداعي ينبغي أن يتوكل أوّلاً لتجاب دعوته. ولما شرح الله تعالى خوف المؤمنين من الكافرين وما ظهر فيهم من التوكل على الله تعالى أتبعه بأن أمر موسى وهارون عليهما السلام باتخاذ البيوت بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٧
وأوحينا إلى موسى وأخيه﴾
أي : الذي طلب مؤازرته ومعاضدته ﴿أن تبوّأا﴾ أي : اتخذا ﴿لقومكما بمصر بيوتاً﴾ تسكنون فيها أو ترجعون إليها للعبادة ﴿واجعلوا﴾ أنتما وقومكما ﴿بيوتكم﴾ أي : تلك البيوت ﴿قبلة﴾ مصلى أو مساجد كما في قوله تعالى :﴿في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه﴾ (النور، ٣٦) موجهة نحو القبلة، أي : الكعبة، وكان موسى عليه السلام يصلي إليها. وقرأ ورش وأبو عمرو وحفص بيوتاً وبيوتكم برفع الباء، والباقون بالخفض ﴿وأقيموا الصلاة﴾ فيها ذكر المفسرون في كيفية هذه الواقعة وجوهاً ثلاثة :
الأوّل : أنّ موسى عليه السلام ومن معه كانوا في أوّل أمرهم مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم خفية من الكفرة لئلا يظهروا عليهم ويؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم كما كان المؤمنون على هذه الحالة في أوّل الإسلام بمكة.
الثاني : أنه قيل : إنه تعالى لما أرسل موسى إليهم أمر فوعون بتخريب مساجد بني اسرائيل ومنعهم من الصلاة فأمرهم الله تعالى أن يتخذوا مساجد في بيوتهم ويصلوا فيها خوفاً من فرعون.
الثالث : أنه تعالى لما أرسل موسى إليهم وأظهر فرعون تلك العداوة الشديدة أمر الله تعالى موسى وهارون وقومهما باتخاذ المساجد على رغم الأعداء، وتكفل الله تعالى بأن يصونهم من شرّ الأعداء، وقد خص الله تعالى موسى وهارون في أوّل هذه الآية بالخطاب بقوله تعالى :﴿أن تبوّأا لقومكما﴾ لأنّ التبوء للقوم واتخاذ المعابد مما يتعاطاه رؤوس القوم للتشاور، ثم عمم هذا الخطاب فقال : واجعلوا بيوتكم قبلة ؛ لأن جعل البيوت مساجد وإقامة الصلاة مما ينبغي أن يفعله كل أحد، ثم خص موسى عليه السلام في آخر الكلام بالخطاب فقال تعالى :﴿وبشر المؤمنين﴾ أي : بالنصر في الدنيا والجنة في العقبى ؛ لأنّ الغرض الأصلي من جميع العبادات حصول هذه البشارة، فخص الله تعالى موسى بها ليدل بذلك على أن الأصل في الرسالة هو موسى عليه السلام، وأنّ هارون عليه السلام تبع له، ثم إنّ موسى عليه السلام لما بالغ في إظهار المعجزات
٣٨


الصفحة التالية
Icon