ولما هدد السامعين بما حاصله ليختار كل امرئ لنفسه ما يجده غداً عند الله أتبعه بذلك الوعيد والأفعال الباطلة، وبذكر الوعد على الإيمان والأعمال الصالحة، أمّا الوعيد فقوله تعالى :﴿إنا أعتدنا﴾، أي : هيأنا بما لنا من العظمة والقدرة ﴿للظالمين﴾، أي : لمن أنف عن قبول الحق لأجل أنّ الذين قبلوه فقراء ومساكين وكذا كل من لم يؤمن ﴿ناراً﴾ وهي الجحيم ثم وصف الله تعالى تلك النار بصفتين ؛ الأولى قوله تعالى :﴿أحاط بهم﴾ كلهم ﴿سرادقها﴾، أي : فسطاطها شبه به ما يحيط بهم من النار وقيل هو الحجرة التي تكون حول الفسطاط وقيل حائط من نار والمراد أنه لا مخلص لهم منها ولا فرجة يتفرّجون بالنظر إلى ما وراءها من غير النار بل هي محيطة من كل الجوانب، وقيل هو دخان يغشاهم قبل دخولهم النار يحيط بهم كالسرداق حول الفسطاط. الصفة الثانية قوله تعالى :﴿وإن يستغيثوا﴾، أي : يطلبوا الغوث ﴿يغاثوا بماء﴾ ووصف هذا الماء بصفتين ؛ الأولى قوله تعالى :﴿كالمهل﴾ وهو كما في حديث مرفوع دردي الزيت، وعن ابن مسعود أنه دخل بيت المال وأخرج نقاعة كانت فيه وأوقد عليها النار حتى تلألأت ثم قال : هذا هو المهل. وقال أبو عبيدة والأخفش : كل شيء أذبته من نحاس أو ذهب أو فضة فهو المهل. وقيل إنه الصديد والقيح وقيل إنه ضرب من القطران ثم يحتمل أن تكون هذه الاستغاثة لأنهم طلبوا ماء للشرب فيعطون هذا المهل قال تعالى :﴿تصلى ناراً حامية تسقى من عين آنية﴾ (الغاشية : ٤، ٥)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤١١
ويحتمل أن يستغيثوا من حرّ جهنم فيطلبوا ما يصبونه على أنفسهم للتبريد فيعطون هذا الماء قال تعالى حكاية عنهم :﴿أفيضوا علينا من الماء﴾ (الأعراف، ٥٠)
. وقال تعالى في آية أخرى :﴿سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار﴾ (إبراهيم، ٥٠)
. فإذا استغاثوا من حرّ جهنم صب عليهم القطران الذي يعمّ كل أبدانهم كالقميص. والصفة الثانية للماء : قوله تعالى :﴿يشوي الوجوه﴾، أي : إذا قرب إلى الفم ليشرب فكيف بالفم والجوف ثم وصل تعالى بذلك ذمّه فقال تعالى :﴿بئس الشراب﴾، أي : ذلك الماء الذي هو كالمهل لأنّ المقصود من شرب الشراب تسكين الحرارة وهذا يبلغ في إحراق الإنسان مبلغاً عظيماً ثم عطف عليه ذمّ النار المعدّة لهم بقوله تعالى :﴿وساءت﴾، أي : النار وقوله تعالى :﴿مرتفقاً﴾ تمييز منقول من الفاعل، أي : قبح مرتفقها وهو مقابل لقوله تعالى الآتي في الجنة :﴿وحسنت مرتفقاً﴾ وإلا فأي ارتفاق في النار. ولما ذكر تعالى وعيد المبطلين أردفه بوعد المحقين فقال تعالى :
﴿إنّ الذين آمنوا﴾ ولما كان الإيمان هو الإذعان للأوامر عطف عليه ما يحقق ذلك بقوله تعالى :﴿وعملوا الصالحات﴾ ثم عظم جزاءهم بقوله تعالى :﴿إنا لا نضيع﴾، أي : بوجه من الوجوه ﴿أجر من أحسن عملاً﴾ وهذه الجملة خبر إن الذين وفيها إقامة الظاهر مقام المضمر والمعنى أجرهم، أي : نثيبهم بما تضمنه.
﴿أولئك لهم جنات عدن﴾، أي : إقامة فكأنه قيل فما لهم فيها فقيل :﴿تجري من تحتهم﴾، أي : من تحت منازلهم ﴿الأنهار﴾ وذلك لأنّ أفضل المساكن ما كان تجري فيه الأنهار أو الماء
٤١٣
فكأنه قيل ثم ماذا فقيل :﴿يحلون فيها﴾ وبنى الفعل المجهول لأنّ المقصود وجود التحلية وهي لعزتها إنما يؤتى بها من الغيب فضلاً من الله تعالى.
ولما كانت نعم الله لا تحصى نوع منها قال تعالى مبعضاً :﴿من أساور﴾ جمع إسورة كاحمرة جمع سوار كما يلبس ذلك ملوك الدنيا من جبابرة الكفرة في بعض الأقاليم كأهل فارس وقيل من زائدة، وقيل للابتداء ومن في قوله تعالى :﴿من ذهب﴾ للبيان صفة لأساور وتنكيرها لتعظيم جنسها عن الإحاطة به. وقيل للتبعيض. ولما كان اللباس جزاء العمل فكان موجوداً عندهم أسند الفعل إليهم فقال :﴿ويلبسون ثياباً خضراً﴾ لأنّ الخضرة أحسن الألوان وأكثرها طراوة ثم وصفها بقوله تعالى :﴿من سندس﴾ وهو ما رقّ من الديباج ﴿وإستبرق﴾ وهو ما غلظ منه جمع بين النوعين للدلالة على أنّ فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وفي آية أخرى ﴿بطائنها من إستبرق﴾ (الرحمن، ٥٤)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤١١


الصفحة التالية
Icon