والمفسرون ذكروا في الباقيات الصالحات أقوالاً أحدها أنها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وزاد بعضهم ولا حول ولا قوّة إلا بالله. وللغزالي في تفسير وجه لطيف فقال : روي أنّ من قال : سبحان الله حصل له من الثواب عشر حسنات فإذا قال : الحمد لله صارت عشرين فإذا قال : ولا إله إلا الله صارت ثلاثين فإذا قال : والله أكبر صارت أربعين وتحقيق القول فيه أنّ مراتب الثواب أعظمها هو الاستغراق في معرفة الله تعالى وفي محبته فإذا قال : سبحان الله فقد عرف كونه تعالى منزهاً عن كل ما لا يليق به وكل ما لا ينبغي فحصول هذا العرفان سعادة عظيمة وبهجة كاملة فإذا قال مع ذلك الحمد لله فقد أقرّ بأنّ الحق سبحانه وتعالى مع كونه منزهاً عن كل ما لا ينبغي فهو المبتدئ لكل ما ينبغي ولإفاضة كل
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٢٠
فقد تضاعفت درجات المعرفة فلا جرم قلنا بمضاعفة الثواب فإذا قال مع ذلك : لا إله إلا اللّه فقد أقر بأن الذي تنزه عن كل ما لا ينبغي وهو المبتدئ لكل ما ينبغي ليس في الوجود موجود هكذا إلا هو الواحد فقد صارت مراتب المعرفة ثلاثة فلا جرم صارت درجات الثواب ثلاثة فإذا قال العبد : واللّه أكبر فمعنى أنه أكبر أنه أعظم من أن يصل العقل إلى كنه كبريائه وجلاله فقد صارت مراتب المعرفة أربعة فلا جرم صارت درجات الثواب أربعة. وعن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه ﷺ "لأن أقول سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس". وعن أبي سعيد الخدري أنه قال : قال رسول اللّه ﷺ "استكثروا من الباقيات الصالحات، قيل : وما هنّ يا رسول اللّه قال : التكبير والتهليل والتسبيح والحمد للّه ولا حول ولا قوة إلا باللّه"، ثانيها أنها الصلاة الخمس، ثالثها أنها الطيب من القول، رابعها وهو أعمها، وأولاها أنها أعمال الخيرات التي تبقى ثمراتها أبد الآباد فيندرج في ذلك الصلاة وأعمال الحج وصيام رمضان وسبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر ولا
٤٢١
حول ولا قوة إلا باللّه والكلام الطيب وغير ذلك من كل عمل وقول دعاك لمحبة اللّه تعالى ومعرفته وخدمته، وأما ما دعاك من قول أو عمل إلى الاشتغال بأحوال الخلق فهو خارج عن ذلك لأن كل ما سوى الحق فهو فانٍ لذاته فكان الاشتغال به والانفاق عليه باطلاً وسعياً ضائعاً، وأما الحق لذاته فهو الباقي الذي لا يقبل الزوال، لا جرم كان الاشتغال بمحبته ومعرفته وطاعته وخدمته هو الذي يبقى بقاء لا يزول ولما كان أهم ما إلي من حصل البقاء ليس لكفايته بل لمن يحفظها له لوقت حاجته قال تعالى :﴿عند ربك﴾ أي : الجليل المواهب العالم بالعواقب وخير من المال والبنين في العاجل والآجل ﴿ثواباً وخير﴾ من ذلك كله ﴿أملاً﴾ أي : من جملة ما يرجوه فيها من الثواب ويرجوه فيها من الأمل لأن ثوابها إلى بقاء آملها كل ساعة في تحقق وعلوّ وارتقاء وآمل المال والبنين يخان أحوج ما يكون إليهما، وعن قتادة كل ما أريد به وجه اللّه تعالى خير ثواباً أي : ما يتعلق بها من الثواب وما يتعلق بها من الأمل لأن صاحبها يأمل في الدنيا ثواب اللّه ونصيبه في الآخرة. ولما بيّن سبحانه وتعالى خساسة الدنيا وشرف الآخرة أردفه بأحوال يوم القيامة وذكر منها أنواعاً النوع الأوّل قوله تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٢٠
ويوم﴾
أي : واذكر لهم يوم ﴿نسير﴾ بأيسر أمر ﴿الجبال﴾ عن وجه الأرض بعواصف القدرة كما نسير نبات الأرض بعد أن صار هشيماً بالرياح كما قال تعالى :﴿وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمرّمرّ السحاب﴾ (النمل، ٨٨)
تنبيه : ليس في لفظ الآية ما يدل إلى أين تسير، قال الرازي : ويحتمل أن يقال : إن الله يسيرها إلى الموضع الذي يريده ولم يبين ذلك لخلقه، والحق أنّ المراد أنّ اللّه تعالى يسيرها إلى العدم لقوله تعالى :﴿ويسئلونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً فيذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً﴾ (طه، ١٠٥، ١٠٦)
ولقوله :﴿وبست الجبال بساً فكانت هباء منبثاً﴾ (الواقعة، ٥، ٦)
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بضم التاء الفوقية وفتح الياء التحتية بعد السين على فعل ما لم يسم فاعله ورفع الجبال بإسناد تسير إليها كما في قوله تعالى :﴿وإذا الجبال سيرت﴾ (التكوير، ٣)
والباقون بالنون المضمومة وكسر الياء التحتية بعد السين بإسناد فعل التسيير إليه تعالى نفسه ونصب الجبال لكونه مفعول نسير والمعنى نحن نفعل بها ذلك اعتباراً بقوله تعالى :﴿وحشرناهم﴾ والمعنى واحد لأنها إذا سيرت فمسيرها ليس إلا اللّه تعالى. النوع الثاني قوله تعالى :﴿وترى الأرض﴾ بكمالها ﴿بارزة﴾ لا غار فيها ولا صدع ولا جبل ولا نبت ولا شجر ولا ظل فبقيت بارزة ظاهرة ليس عليها ما يسترها وهو المراد من قوله تعالى :﴿لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً﴾ (طه، ١٠٦)


الصفحة التالية
Icon