﴿فلما جاوزا﴾ ذلك المكان بالسير بقية يومهما وليلتهما واستمرّا إلى وقت الغداء من ثاني يوم ﴿قال﴾ موسى عليه السلام ﴿لفتاه آتنا﴾ أي : أحضر لنا ﴿غداءنا﴾ وهو ما يؤكل أوّل النهار لنقوى به على ما حصل لنا من الإعياء ولذلك وصل به قوله :﴿لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا﴾ أي : تعباً ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره اللّه تعالى به فقوله هذا إشارة إلى السفر الذي وقع بعد
٤٣٠
مجاوزتهما الموعد أو مجمع البحرين ونصبا مفعول بلقينا
﴿قال﴾ له فتاه ﴿أرأيت﴾ أي : ما دهاني وقرأ نافع بتسهيل الهمزة التي هي عين الكلمة ولورش وجه آخر وهو إبدالها حرف مدّ وأسقطها الكسائي والباقون بالتحقيق ﴿إذ أوينا إلى الصخرة﴾ التي بمجمع البحرين ﴿فإني نسيت الحوت﴾ أي : نسيت أن أذكر لك أمره ثم علل عدم ذكره بقوله :﴿وما أنسانيه إلا الشيطان﴾ بوسواسه، وقرأ حفص بضم الهاء وأمال الألف الكسائي محضة وورش بين بين وبالفتح والباقون بالفتح وقوله :﴿أن أذكره﴾ لك في محل نصب على البدل من هاء أنسانيه بدل اشتمال أي : أنساني ذكره ﴿واتخذ سبيله﴾ أي : طريقه الذي ذهب فيه ﴿في البحر عجباً﴾ وهو كونه كالسرب معجزة لموسى أو الخضر وذكره له الآن مانع من أن يكون للشيطان عليه سلطان على أن هذا النسيان ليس مفوتاً لطاعة بل فيه ترقية لهما في معراج المقامات العالية لوجدان التعب بعد المكان الذي فيه البغية وحفظ الماء منجاباً على طول الزمان وغير ذلك من الآيات الظاهرة وقوله تعالى :﴿إنما سلطانه على الذين يتولونه﴾ (النحل، ١٠٠)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٢٩
مبين، أن السلطان الحمل على المعاصي وقوله :﴿وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره﴾ اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه، وقد كان في هذه القصة خوارق منها حياة الحوت ومنها إيجاد ما كان أكل منه ومنها إمساك الماء عن مدخله وقد اتفق لنبينا ﷺ نفسه وأتباعه ببركته مثل ذلك، أمّا إعادة ما أكل من الحوت المشوي وهو جنبه، فقد روى البيهقي في أواخر دلائل النبوّة عن أسامة بن زيد رضي اللّه تعالى عنه "أنه ﷺ أتي بشاة مشوية فقال لبعض أصحابه :"ناولني ذراعها" وكان أحب الشاة إلى رسول اللّه ﷺ فقدّمها ثم قال :"ناولني ذراعها" فناوله ثم قال :"ناولني ذراعها" فقال : يا رسول اللّه إنما هما ذراعان وقد ناولتك فقال ﷺ "والذي نفسي بيده لو سكت ما زلت تناولني ذراعاً ما قلت لك ناولني ذراعاً" فقد أخبر ﷺ أنه لو سكت أوجد اللّه تعالى ذراعاً ثم ذراعاً وهكذا، وأمّا حياة الحوت المشوي ففي قصة الشاة المشوية المسمومة أنّ ذراعها أخبر النبي ﷺ أنه مسموم فهذا أعظم من عود الحياة من غير نطق وكذا حنين الجذع وتسليم الحجر وتسبيح الحصى ونحو ذلك أعظم من عود الحياة إلى ما كان حياً.
وروى البيهقي في "الدلائل" عن عمرو بن سواد قال : قال الشافعي : ما أعطى اللّه تعالى نبياً ما أعطى محمداً ﷺ قلت : أعطى عيسى عليه السلام إحياء الموتى، فقال : أعطى محمد ﷺ إحياء الجذع الذي كان يخطب إلى جنبه حين هيئ له المنبر وحنّ الجذع حتى سمع صوته فهذا أكبر من ذلك انتهى، وقد ورد أشياء كثيرة من إحياء الموتى له ﷺ ولبعض أمّته، وروي عن أنس رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : كنا في الصفة عند رسول اللّه ﷺ فأتته امرأة ومعها ابن لها فأضاف المرأة إلى النساء وأضاف ابنها إلينا فلم يلبث أن أصابه وباء المدينة فمرض أياماً ثم قبض فغمضه النبي ﷺ وأمر بجهازه فلما أردنا أن نغسله قال :"ائت أمّه فأعلمها" فجاءت حتى جلست عند قدميه فأخذت بهما ثم قالت : اللهم إني أسلمت لك تطوّعاً وخلعت الأوثان زهداً وهاجرت إليك رغبة، اللهم لا تشمت بي عبدة الأوثان ولا تحملني من هذه المصيبة ما لا طاقة لي بحملها، قال : فواللّه ما انقضى
٤٣١


الصفحة التالية
Icon