﴿قال﴾ له الخضر :﴿ألم أقل لك إنك﴾ يا موسى ﴿لن تستطيع معي صبراً﴾ وهذا عين ما ذكره في المسألة الأولى إلا أنه هنا زاد لفظه لك ﴿فإن قيل﴾ لم زادها هنا ؟
أجيب : بأنه زادها مكافحة بالعقاب على رفض الوصية ووسماً بقلة الصبر والثبات لما تكرر منه الاشمئزاز والاستكبار ولم يرعو بالتذكير أول مرّة، قال ابن الأثير : المكافحة المدافعة والمضاربة والاشمئزاز من اشمأز الرجل أي : انقبض قلبه، قال البغوي : وفي القصة أن يوشع كان يقول لموسى يا نبيّ اللّه اذكر العهد الذي أنت عليه
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٣٣
قال﴾
موسى حياءً منه لما أفاق بتذكيره ما حصل من فرط الوجد لأمر اللّه تعالى فذكر أنه ما تبعه إلا بأمر اللّه تعالى ﴿إن سألتك عن شيء بعدها﴾ أي : بعد هذه المرّة وأعلم بشدّة ندمه على الإنكار بقوله :﴿فلا تصاحبني﴾ أي : لا تتركني أتبعك بل فارقني ثم علل ذلك بقوله :﴿قد بلغت﴾ وأشار إلى أن ما وقع منه من الإخلال بالشرط من أعظم الخوارق التي اضطر إليها فقال :﴿من
٤٣٦
لدني﴾
أي : من قبلي ﴿عذراً﴾ باعتراضي مرّتين واحتمالك لي فيهما، وقد أخبر اللّه بحسن حالك في غزارة عملك فمدحه بهذه الطريقة من حيث أنه احتمله مرّتين أوّلاً وثانياً مع قرب المدّة روى عن النبي ﷺ أنه قال :"رحم اللّه أخي موسى استحيا فقال ذلك، ولو لبث مع صاحبه لأبصر أعجب الأعاجيب" وعن أبيّ بن كعب قال : قال رسول اللّه ﷺ "رحمة اللّه علينا وعلى موسى ـ وكان إذا ذكر أحداً من الأنبياء بدأ بنفسه ـ لولا أن عجل لرأى العجب ولكنه أخذته من صاحبه ذمامة أي : حياء واشفاق، فقال : إن سألتك إلى آخره"، وقرأ نافع بضم الدال وتخفيف النون، وقرأ شعبة كذلك إلا أنه يشم الدال فتصير ساكنة قريبة من الضم والباقون بضم الدال وتشديد النون.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٣٣
﴿فانطلقا﴾ أي : موسى والخضر يمشيان لينظر الخضر أمراً ينفذ فيه ما عنده من علمه وورش يغلظ اللام في لفظ انطلقا على أصله بعد قتل الغلام ﴿حتى إذا أتيا أهل قرية﴾، قال ابن عباس : هي انطاكية، وقال ابن سيرين : هي الأيلة وهي أبعد أرض اللّه من السماء وعبر عنها بالقرية دون المدينة لأنه أدل على الذمّ، وقيل : برقة، وعن أبي هريرة بلدة بالأندلس ﴿استطعما أهلها﴾ أي : طلبا من أهل القرية أن يطعموهما، وفي الحديث أنهما كانا يمشيان على مجالس أولئك القوم يستطعمانهم ﴿فأبوا أن يضيفوهما﴾ أي : أن ينزلوهما ويطعموهما يقال ضافه إذا كان له ضيفاً وحقيقته مال إليه من ضاف السهم عن الغرض وضيفه وأضافه أنزله وجعله ضيفاً فإن قيل : الاستطعام ليس من عادة الكرام وكيف قدم عليه موسى والخضر وقد حكى اللّه تعالى عن موسى أنه قال عند ورود ماء مدين ربّ إني لما أنزلت إليّ من خير فقير ؟
أجيب : بأن إقدام الجائع على الاستطعام أمر مباح في كل الشرائع بل ربما وجب ذلك عند الخوف من الضرر الشديد فإن قيل : لم قال : حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها ولم يقل استطعماهم ؟
أجيب : بأن التكرير قد يكون للتأكيد كقول الشاعر :
*ليت الغراب غداة يبعث دائباً
** كان الغراب مقطع الأوداج"
وعن قتادة شر القرى التي لا تضيف الضيف.
فائدة : قال الرازي : وفي كتب الحكايات أن أهل تلك القرية لما سمعوا نزول هذه الآية استحيوا وجاؤوا إلى رسول اللّه ﷺ بحمل من الذهب وقالوا : يا رسول اللّه جئناك بهذا الذهب لتجعل الباء تاء حتى تصير القراءة هكذا فأتوا أن يضيفوهما أي : أتيناهم لأجل الضيافة حتى يندفع عنا هذا اللوم فامتنع رسول اللّه ﷺ وقال :"تغيير هذه النقطة يوجب دخول الكذب في كلام اللّه تعالى وذلك يوجب القدح في الإلهية" فعلمنا أن تغيير النقطة الواحدة من القرآن يوجب بطلان الربوبية والعبودية. ولما أبوا أن يضيفوهما انصرفا ﴿فوجدا فيها﴾ أي : القرية ولم يقل فيهم إيذاناً بأن المراد وصف القرية بسوء الطبع ﴿جداراً﴾ أي : حائطاً مائلاً مشرفاً على السقوط ولذا قال : مستعيراً لما لم يعقل صفة من يعقل ﴿يريد أن ينقص﴾ أي : يسقط وهذا من مجاز كلام العرب لأنّ
٤٣٧
الجدار لا إرادة له وإنما معناه قرب ودنا من السقوط كما تقول العرب داري تنظر إلى دار فلان إذا كانت تقابلها فاستعير الإرادة للمشارفة كما استعير لها الهم والعزم في قوله :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٣٧
يريد الرمح صدر أبي براء
** ويعدل عن دماء بني عقيل"
وقول الآخر :
*إنّ دهراً يلف صدري بجمل
** لزمان يهم بالإحسان"
ففي البيت الأوّل دليل على استعارة الإرادة للمشارفة، وفي الثاني دليل على استعارة الهم لها وجمل اسم محبوبته يقول : إن دهراً يجمع بيني وبينها زمان قصده الإحسان لا الإساءة ونظير ذلك من القرآن قوله تعالى :﴿ولما سكت عن موسى الغضب﴾ (الأعراف، ١٥٤)
وقوله تعالى :﴿أن يقول له كن فيكون﴾ (يس، ٨٢)


الصفحة التالية
Icon