﴿إن الذين آمنوا﴾ أي : باشروا الإيمان ﴿وعملوا﴾ تصديقاً لإيمانهم ﴿الصالحات﴾ من الخصال ﴿كانت لهم﴾ أي : في علم اللّه قبل أن يخلقوا البناء أعمالهم على الأساس ﴿جنات﴾ أي : بساتين ﴿الفردوس﴾ أي : أعلى الجنة وأوسطها والإضافة إليه للبيان، روي عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه عن النبي ﷺ أنه قال :"إذا سألتم اللّه تعالى فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة" وقال كعب : ليس في الجنان جنة أعلى من جنة الفردوس فيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، وقال قتادة : الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها وأرفعها، وقال كعب : الفردوس هو بستان الجنة الذي فيه الأعناب، وقال مجاهد : هو البستان بالرومية،
٤٥٢
وقال الزجاج : هو بالرومية منقول إلى لفظ العربية، وقال عكرمة : هي الجنة بلسان الحبش، وقال الضحاك : هي الجنة الملتفة الأشجار ﴿نزلاً﴾ أي : منزلاً كما كان السعير والأغلال لأولئك نزلاً وقوله تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٥١
خالدين فيها﴾
حال مقدرة ﴿لا يبغون﴾ أي : لا يريدون أدنى إرادة ﴿عنها حولاً﴾ أي : تحويلاً إلى غيرها، قال ابن عباس : لا يريدون أن يتحوّلوا عنها كما ينتقل الرجل من دار إذا لم توافقه إلى دار أخرى. ولما ذكر تعالى في هذه السورة أنواع الدلائل والبيّنات وشرح فيها أقاصيص الأوّلين والآخرين نبه على حال كمال القرآن بقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم.
﴿قل﴾ يا أشرف الخلق للخلق ﴿لو كان البحر﴾ أي : ماؤه على عظمته عندكم ﴿مداداً﴾ وهو اسم لما يمدّ به الشيء كالحبر للدواة والسليط للسراج ﴿لكلمات﴾ أي : لكتب كلمات ﴿ربي﴾ أي : المحسن إليّ ﴿لنفد﴾ أي : فني مع الضعف فناء لا تدارك له ﴿البحر﴾ لأنه جسم متناه ﴿قبل أن تنفذ﴾ أي : تفنى وتفرغ ﴿كلمات ربي﴾ لأنّ معلوماته تعالى غير متناهية والمتناهي لا يفي البتة بغير المتناهي، وقرأ حمزة والكسائي بالياء التحتية على التذكير والباقون بالفوقية على التأنيث. ولما لم يكن أحد غيره يقدر على إمداد البحر قال تعالى :﴿ولو جئنا بمثله﴾ أي : بمثل البحر الموجود ﴿مدداً﴾ أي : زيادة ومعونة ونظيره قوله تعالى :﴿ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام، والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات اللّه﴾ (لقمان، ٢٧)، واختلف في سبب نزول هذه الآية، فقال البغوي وابن عباس : قالت اليهود : تزعم يا محمد أنا قد أوتينا الحكمة، وفي كتابك ﴿ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً﴾ (النبوة، ٢٦٩)، ثم تقول :﴿وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً﴾، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية، وقال البيضاوي : وسبب نزولها أن اليهود قالوا : في كتابكم ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وتقرؤون وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً انتهى. وقال في "الكشاف" يعني أن ذلك خير كثير ولكنه قطرة من بحر كلمات اللّه، وقيل : لما نزل وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً، قالت اليهود : أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. ولما كانوا ربما قالوا : مالك لا تحدّث من هذه الكلمات بكل ما سألنا عنه قال اللّه تعالى :
﴿قل﴾ يا خير الخلق لهم ﴿إنما أنا بشر﴾ في استبداد القدرة على إيجاد المعدوم والإخبار بالغيب ﴿مثلكم﴾ أي : لا أمر لي ولا قدرة إلا ما يقدرني ربي عليه ولكن ﴿يوحى إليّ﴾ أي : من اللّه تعالى الذي خصني بالرسالة كالوحي إلى الرسل قبلي ﴿أنما إلهكم﴾ الذي يجب أن يعبد ﴿إله واحد﴾ لا ينقسم بمجانسة ولا غيرها قادر على ما يريد، لا منازع له لم يؤخر جواب ما سألتموني عنه من عجز ولا من جهل هذا الذي يعني كل أحد علمه، وأما ما سألتم عنه في أمر الروح والقصتين تعنتا لي فأمر لو جهلتموه ما ضرّكم جهله ﴿فمن﴾ أي : فتسبب عن وحدته المستلزمة لقدرته أنه من ﴿كان يرجو لقاء ربه﴾ أي : يخاف المصير إليه وقيل يأمل رؤية ربه والرجاء يكون بمعنى الخوف والأمل جميعاً قال الشاعر :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٥١
فلا كل ما ترجو من الخير كائن
** ولا كل ما ترجو من الشر واقع
فجمع بين المعنيين ﴿فليعمل عملاً﴾ ولو قليلاً ﴿صالحاً﴾ يرتضيه اللّه ﴿ولا يشرك﴾ أي : وليكن ذلك العمل مبنياً على الأساس وهو أن لا يشرك ولو بالرياء ﴿بعبادة ربه أحداً﴾ فإذا عمل
٤٥٣
ذلك حاز فخار علوم الدنيا والآخرة، روي أن جندب بن زهير قال لرسول اللّه ﷺ إني لأعمل العمل للّه فإذا اطلع عليه سرّني فقال :"إن اللّه لا يقبل ما شورك فيه فنزلت تصديقاً، وروي أنه قال له : لك أجران أجر السر وأجر العلانية" وذلك إذا قصد أن يقتدي به، وروي أنه ﷺ قال :"اتقوا الشرك الأصغر قالوا : وما الشرك الأصغر ؟
قال : الرياء" وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال : سمعت رسول اللّه ﷺ يقول عن اللّه تعالى :"أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا منه بريء هو للذي عمله"، وعن سعيد بن فضالة قال : سمعت رسول اللّه ﷺ يقول :"إذا جمع اللّه تبارك وتعالى الناس ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان يشرك في عمل عمله للّه فليطلب ثوابه منه فإن اللّه تعالى أغنى الشركاء عن الشرك" والآية جامعة لخلاصتي العلم والعمل وهما التوحيد والإخلاص في الطاعة.
خاتمة : روي في فضائل سورة الكهف أحاديث كثيرة منها ما رواه الترمذي وغيره من قرأها عند مضجعه كان له نور يتلألأ في مضجعه إلى مكة حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يقوم وإن كان مضجعه بمكة كان له نور يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمور حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يستيقظ، وروي أبو الدرداء عن النبي ﷺ أنه قال :"من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال"، وقال البيضاوي وعنه عليه السلام :"من قرأ سورة الكهف من آخرها كانت له نوراً من قرنه إلى قدمه"، ولكن الذي رواه الإمام أحمد :"من قرأ أول سورة الكهف كانت له نوراً من فرقه إلى قدمه، ومن قرأها كلها كانت له نوراً من الأرض إلى السماء"، وروى البغوي عن النبي ﷺ أنه قال :"من قرأ أوّل سورة الكهف وآخرها كانت له نوراً من قدمه إلى رأسه، ومن قرأها كلها كانت له نوراً من الأرض إلى السماء" فنسأل اللّه تعالى أن ينوّر قلوبنا وأبصارنا وأن يغفر زلاتنا ولا يؤاخذنا بسوء أفعالنا، وأن يفعل ذلك بوالدينا وأولادنا وأقاربنا وأصحابنا ومشايخنا وجميع إخواننا المسلمين وأحبابنا آمين ولا حول ولا قوة إلا باللّه العليّ العظيم وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً دائماً إلى يوم الدين.
٤٥٤
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٥١


الصفحة التالية
Icon