وحناناً} أي : وآتيناه رحمة وهيبة ووقاراً ورقة قلب ورزقاً وبركة ﴿من لدنّا﴾ أي : من عندنا بلا واسطة تعليم ولا تجربة. الصفة الثالثة قوله تعالى :﴿وزكاة﴾ أي : وآتيناه طهارة في دينه، قال ابن عباس : يعني بالزكاة الطاعة والإخلاص، وقال قتادة : هي العمل الصالح، وقال الكلبي : يعني صدقة تصدّق اللّه بها على أبويه. الصفة الرابعة قوله تعالى :﴿وكان﴾ أي : جبلة وطبعاً ﴿تقياً﴾ أي : مخلصاً مطيعاً، روي أنه لم يعمل خطيئة ولم يهمّ بها. الصفة الخامسة قوله تعالى :
﴿وبراً بوالديه﴾ أي : بارّاً لطيفاً بهما محسناً إليهما لأنه لا عبادة بعد تعظيم اللّه تعالى أعظم من برّ الوالدين يدل عليه قوله تعالى :﴿وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إيّاه وبالوالدين إحساناً﴾ (الإسراء، ٢٣)
. الصفة السادسة قوله تعالى ﴿ولم يكن جباراً﴾ أي : متكبراً والمراد وصفه بالتواضع ولين الجانب وذلك من صفات المؤمنين قال تعالى لنبيه ﷺ ﴿واخفض جناحك للمؤمنين﴾ (الحجر، ٨٨)، وقال تعالى :﴿ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك﴾ (آل عمران، ١٥٩)
ولأن رأس العبادة معرفة الإنسان نفسه بالذل ومعرفة ربه بالعظمة والكمال ومن عرف نفسه بالذل وعرف ربه بالكمال كيف يليق به التجبر والترفع ولذلك لما تجبر إبليس وتمرد صار مبعداً عن رحمة اللّه تعالى وعن المؤمنين، وقيل : الجبار هو الذي لا يرى لأحد على نفسه حقاً وهو من التعظيم والذهاب بنفسه من أنه لا يلزمه قضاء حق لأحد، وقيل : هو كل من عاقب على غضب نفسه. الصفة السابعة قوله تعالى :﴿عصياً﴾ أي : عاقاً أو عاصي ربه وهو أبلغ من العاصي كما أن العليم أبلغ من العالم. الصفة الثامنة قوله تعالى :
﴿وسلام عليه﴾ منا ﴿يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً﴾. فإن قيل : لم خص هذه الأوقات الثلاثة ؟
أجيب : بوجوه :
الأول : قال محمد بن جرير الطبري : وسلام عليه يوم ولد أي : أمان من اللّه تعالى عليه يوم ولد من أن يناله الشيطان كما ينال سائر بني آدم ويوم يموت أي : أمان من اللّه من عذاب القبر، ويوم يبعث أي : ومن عذاب اللّه يوم القيامة.
الثاني : قال ابن عيينة أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن ؛ يوم ولد فيرى نفسه خارجاً مما كان فيه ويوم يموت فيرى قوماً ما شاهدهم قط ويوم يبعث فيرى في محشر عظيم، فأكرم اللّه تعالى يحيى عليه السلام فخصه بالسلام في هذه المواطن.
الثالث : قال عبد اللّه بن نفطوية : وسلام عليه يوم ولد أي : أوّل ما يرى في الدنيا ويوم يموت أي : أول يوم يرى فيه أمر الآخرة، ويوم يبعث حياً أي : أول يوم يرى فيه الجنة والنار وهو يوم القيامة وإنما قال : حياً تنبيهاً على كونه من الشهداء لأنه قتل، وقد قال تعالى ﴿أحياء
٤٥٩
عند ربهم يرزقون﴾
(آل عمران، ١٦٩)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٥٧
فروع : الأول : هذا السلام يمكن أن يكون من اللّه وأن يكون من الملائكة وعلى التقديرين ففيه دلالة على تشريفه لأن الملائكة لا يسلمون إلا عن أمر اللّه تعالى.
الثاني : ليحيى مزية في هذا السلام على ما لسائر الأنبياء لقوله تعالى :﴿سلام على نوح﴾ (الصافات، ٧٩)
﴿سلام على إبراهيم﴾ (الصافات، ١٠٩)
لأنه تعالى قال يوم ولد وليس كذلك سائر الأنبياء.
الثالث : روي أن عيسى عليه السلام قال ليحيى عليه السلام : أنت أفضل مني لأن اللّه تعالى قال : سلام عليه وأنا سلمت على نفسي، قال الرازي : وهذا ليس بقوي لأن سلام عيسى على نفسه يجري مجرى سلام اللّه تعالى على يحيى لأن عيسى معصوم لا يفعل إلا ما أمر اللّه تعالى انتهى ولكن بين السلامين مزية.
تنبيه : هذه القصة قد ذكرت في آل عمران بقوله تعالى :﴿كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً﴾ (آل عمران، ٣٧)
إلى أن قال :﴿هنالك دعا زكريا ربه قال : رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء فنادته الملائكة وهو قائم﴾ (آل عمران، ٣٨)
لأن زكريا عليه السلام لما رأى خرق العادة في حق مريم طمع في حق نفسه فدعا وقد وقعت المخالفة في ذكر ما هنا وهناك في الألفاظ من وجوه، الأول منها : أن اللّه تعالى صرّح في آل عمران بأن المنادي هو الملائكة بقوله تعالى :﴿فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب﴾ (آل عمران، ٣٩)
وفي هذه السورة الأكثر على أن المنادي بقوله يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى هو اللّه تعالى وأجيب : بأن اللّه تعالى هو المبشر سواء كان بواسطة أم لا، الثاني : أنه قال تعالى في آل عمران :﴿أنّى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر﴾ (آل عمران، ٤٠)


الصفحة التالية
Icon