أجيب عن ذلك بأجوبة : الأول : أنها تمنت ذلك استحياء من الناس فأنساها الاستحياء بشارة الملائكة بعيسى. الثاني : أنّ عادة الصالحين إذا وقعوا في بلاء أن يقولوا ذلك كما روي عن أبي بكر رضي اللّه عنه أنه نظر إلى طائر على شجرة فقال : طوبى لك يا طائر تقع على الشجر وتأكل من الثمر وددت أني ثمرة ينقرها الطائر، وعن عمر رضي الله عنه أنه أخذ تبنة من الأرض فقال : يا ليتني هذه التبنة ولم أكن شيئاً، وعن علي رضي اللّه عنه يوم الجمل : ليتني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة، وعن بلال : ليت بلالاً لم تلده أمه فثبت أن هذا الكلام يذكره الصالحون عند اشتداد الأمر عليهم. الثالث : لعلها قالت ذلك لئلا يقع في المعصية من يتكلم فيها وإلا فهي راضية بما بشرت به، وقرأ حفص وحمزة نسياً بفتح النون والباقون بالكسر وقوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٦٠
﴿فناداها من تحتها﴾ قرأه نافع وحفص وحمزة بكسر من وجر التاء من تحتها والباقون بفتح من ونصب تحتها وأمال ألف ناداها حمزة والكسائى إمالة محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح، وفي المنادي أوجه.
أحدها : أنه عيسى عليه السلام وهو قول الحسن وسعيد بن جبير.
ثانيها : أنه جبريل عليه السلام وأنه كالقابلة للولد.
ثالثها : أن المنادي على القراءة بالفتح هو عيسى وعلى القراءة بالكسر هو جبريل وهو مروي عن ابن عيينة وعاصم، قال الرازي : والأول أقرب وصدر به البيضاوي واقتصر الجلال المحلي على الثاني، والمعنى على الأول أن اللّه تعالى أنطقه لها حين ولدته تطييباً لقلبها وإزالة للوحشة عنها حتى تشاهد في أول الأمر ما بشرها به جبريل من علو شأن ذلك الولد، وعلى الثاني أن اللّه تعالى أرسله إليها ليناديها بهذه الكلمات كما أرسل إليها في أوّل الأمر تذكيراً للبشارات المتقدمة والضمير في تحتها للسيدة مريم وعلى تقدير أن يكون المنادي هو عيسى فهو ظاهر، وإن كان جبريل فقيل : إنه كان تحتها يقبل الولد كالقابلة، وقيل : تحتها أسفل من مكانها، وقيل : الضمير فيه للنخلة أي : ناداها من تحتها ﴿أن لا تحزني﴾ يجوز في أن أن تكون مفسرة لتقدمها ما هو بمعنى القول ولا على هذا ناهية وحذف النون للجزم وأن تكون الناصبة و﴿لا﴾ حينئذٍ نافية وحذف النون للنصب ومحل ﴿أن﴾ إما نصب أو جرّ لأنها على حذف حرف الجر أي : فناداها بكذا ﴿قد جعل ربك﴾ أي : المحسن إليك ﴿تحتك﴾ في هذه الأرض التي لا ماء جار فيها ﴿سرياً﴾ أي : جدولاً من الماء تطيب به نفسك، قال الرازي : اتفق المفسرون إلا الحسن وعبد الرحمن بن زيد أن السري : هو النهر والجدول سمي بذلك لأن الماء يسري فيه، وأما الحسن وابن زيد فإنهما جعلا السري هو عيسى والسري هو النبيل الجليل يقال : فلان من سروات قومه أي : أشرافهم، واحتج
٤٦٤
من قال : هو النهر بأن النبي ﷺ سئل عن السري فقال :"هو الجدول" وبقوله تعالى :﴿فكلي واشربي﴾ فدل على أنه النهر حتى يضاف الماء إلى الرطب فتأكل وتشرب، واحتج من قال : إنه عيسى بأن النهر لا يكون تحتها بل إلى جنبها ولا يجوز أن يجاب عنه بأن المراد أنه جعل النهر تحت أمرها يجري بأمرها ويقف بأمرها كقول فرعون :﴿وهذه الأنهار تجري من تحتي﴾ (الزخرف، ٥١)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٦٤
لأن هذا حمل للفظ على مجازه ولو حملناه على عيسى لم يحتج إلى هذا المجاز وأيضاً فإنه موافق لقوله وجعلنا ابن مريم وأمه آية وأجيب : بأن المكان المستوي إذا كان فيه مبدأ معين فكل من كان أقرب منه كان فوق وكل من كان أبعد منه كان تحت.
تنبيه : إذا قيل بأن السري هو النهر ففيه وجهان ؛ الأول : قال ابن عباس : إن جبريل ضرب برجله الأرض، وقيل : عيسى فظهر عين ماء عذب وجرى، وقيل : كان هناك ماء جار، قال ابن عادل : والأول أقرب لأن قوله قد جعل ربك تحتك سرياً يدل على الحدوث في ذلك الوقت ولأن اللّه تعالى ذكره تعظيماً لشأنها، وقيل : كان هناك نهر يابس أجرى اللّه فيه الماء وحييت النخلة اليابسة وأورقت وأثمرت وأرطبت، قال أبو عبيدة والفراء : لسري هو النهر مطلقاً، وقال الأخفش : هو النهر الصغير.
﴿وهزي إليك﴾ أي : أوقعي الهز وهو جذب بتحريك ﴿بجذع النخلة﴾ أي : التي أنت تحتها مع يبسها وكون الوقت ليس وقت حملها ﴿تساقط عليك﴾ من أعلاها ﴿رطباً جنياً﴾ طرياً آية أخرى عظيمة روي أنها كانت نخلة يابسة لا رأس لها ولا ثمر، وكان الوقت شتاء فهزتها فجعل اللّه تعالى لها رأساً وخوصاً ورطباً، وقرأ حمزة بفتح التاء والسين مخففة وفتح القاف وحفص بضم التاء وفتح السين مخففة وكسر القاف والباقون بفتح التاء وتشديد السين مفتوحة وفتح القاف.
تنبيه : الباء في بجذع زائدة والمعنى هزّي إليك جذع النخلة كما في قوله تعالى :﴿ولا تلقوا بأيديكم﴾ (البقرة، ١٩٥)